U3F1ZWV6ZTE2NDIxOTY5MTY3NjA3X0ZyZWUxMDM2MDM5ODE3MjU5MQ==

ماهية العنف الإجتماعي.

ماهية العنف الإجتماعي.


1- مفهوم العـنف:
أ- لـغــــة: العنف لغةً: "عنفٌ بيه وعليه ـ عنفاً، وعنافة: أخذه بشدة وقسوة، ولامه" فهو عنيف، (اعتنف) الأمر: أخذه بعنف وأتاه ولم يكن له علم بيه و.. الشيء: كرهه، يقال إعتنف الطعام و.. فلان المجلس: تحول عنه، عنفوان الشيء: أوله، يقال هو في عنفوان شبابه أي في نشاطه وحدّته".
"غير أن معنى العنف اكتسب دلالة أخرى مختلفة عند العرب المحدثين، فأصبح مقابلاً للفظة Violence في الفرنسية أو الإنجليزية، أو Gewalt في الألمانية، من المعنى الحقوقي الحديث، وفي الحقيقة فإن لفظة العنف كما وردت في الحديث أو الشعر العربي القديم قريبة من معنى Violentia في اللاتينية التي تعني الغلظة والقوة الشديدة، وهي مشتقة من Vis أي القوة الفيزيائية أو كمية ووفرة شيء ما، وهو معنى على صلة بلفظة bia في اليونانية أي القوة الحية، ذلك أن العربية تقول عنفوان كل شيء أوله، وقد غلب على النبات والشباب كما جاء في معجم لسان العرب.

ب- إصطلاحاً: إن المعنى الحداثوي لـ "العنف" كمصطلح يتسع لكل أشكال العنف، ولما كنا بصدد العنف داخل المجتمع المدني الحديث، فإنه ينبغي الإشارة إلى أن "العنف كمقولة حقوقية تعود إلى القرن التاسع عشر حيث حدد وفكر فيه داخل التصور الحديث للدولة بوصفه فعلاً أو ظاهرة ترمي إلى إحداث خلل في البنى التي تنظم مجتمعاً ما، مما ينجم عنه تهديد نظام الحقوق والواجبات التي يتوفر عليها الأفراد طالما هم ينتمون إلى شرعية قائمة".
وعلى أية حال، يستطيع كل واحد أن يعرّف العنف من وجهة نظره، من هذه التعريفات تعريف (د. فرج عبد القادر طه) الذي عرفه من خلال السياق النفسي "بأنه السلوك المشوب بالقسوة والعدوان والقهر والإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن التحضر والتمدن تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً كالضرب والتقتيل للأفراد والتكسير والتدمير للممتلكات، واستخدام القوة لإكراه الخصم وقهره".
وإذا قرأنا عدة تعريفات سنجد أن جميع التعاريف السابقة تتمحور حول نقطتين مركزيتين:
1 ـ أنه من الصعب إعطاء تعريف للعنف خارج النطاق الحقوقي، إذ لا بد من ذكر ثنائيات من مثل الحق/ التجاوز، القانون/ الاختراق، وهذا ما يؤكد لنا أن العنف مقولة حقوقية أو قانونية.
2 ـ يندرج تعريف العنف ضمن الحقل الوجودي، أي علاقة الأنا مع الآخر، سواء اعتبرنا أنه إنكار الآخر أو استبعاده أو خفضه إلى تابع أو تصفيته معنوياً أو جسدياً فإنها تتم جميعاً في الحقل التصادمي مع الآخر. وفي النهاية نستطيع ضبط العنف من الناحية المفهومية على أنه تجاوز واختراق القواعد أو القوانين التي تنظم وضعيات تعتبر طبيعية أو عادية أو قانونية، فالتعريف بهذا المعنى يوحي بمعنى الإخلال أو بث البلبلة في نظام الأشياء بشكل وقتي أو دائم. وسواء تركز ذلك أو انحبس داخل النفس الإنسانية أو وجد منفذاً ومخرجاً له فتحول إلى الشكل المادي الفيزيقي، أنه يعتبر في كلتا الحالتين عنفاً، فهو في المرحلة الأولى مؤسس، أما في الثاني فهو مؤسس وناتج عن الأولى".
إن التصادم مع الآخر سواء أكان قريباً أم بعيداً هو أسلوب معين لإثبات الحق، أو وجهة النظر، أو المصلحة المادية، ذلك أننا لا نستطيع أن ننسى أن بداية العنف كانت ترجع إلى الصراع حول الحاجات الأساسية، صراع البقاء المعتمد على تأمين المأكل أولاً ثم بقية الحاجات المادية الضرورية للعيش حسب المستوى الحضاري للإنسان، وبعد وضع النصوص القانونية الأولية التي تبين العلاقة بين الناس ظهرت أنواع متعددة من السلوكيات الرافضة، ومن هنا نشأ السلوك العدواني الذي يسعى لإثبات الذات وتوكيدها. وقد تم تعريف هذا السلوك على أنه "أي سلوك يصدره الفرد بهدف إلحاق الأذى أو الضرر بفرد آخر يحاول أن يتجنب هذا الإيذاء سواء كان بدنياً أو لفظياً تم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو أفصح عن نفسه في صورة الغضب أو العداوة التي توجه إلى المعتدي عليه".
*** *** ***
2-أنـواع العـنف، وأسبابه:
يتفق الباحثون أن العنف الاجتماعي يتخذ أشكالاً متنوعة، مباشرة وغير مباشرة، خفية ومعلنة. لكن ما نريد تأكيده، منذ البداية، هو أن العدوان الخارجي ليس مسوِّغًا لثقافة العنف؛ بل إن ثقافة العنف داخل المجتمع هي تأسيس للهزيمة أمام العدوان الخارجي. فقد حان الوقت كي نتنبه إلى أن التنمية ليست مجرد تنمية للأرقام، بل هي، أولاً وأخيرًا، تنمية للإنسان. إذ يضاف العنف الإنساني، في مجتمعاتنا، إلى تعنيف الطبيعة وقهرها، حيث تقوم ثقافة العنف على منظومة فكرية مركزية عقائدية وأخلاقية تستند إليها.
وقد قسم المختصون العنف إلى قسمين متباينان هما كالآتي:
أ-العنف الدفاعي: ويشترك فيه الإنسان والحيوان؛ وهو عنف غريزي يهدف إلى الحفاظ على النوع.
فالعنف الحيوان دفاعي، ناتج عن غريزة حبِّ البقاء؛ وقد يتبلور إلى عنف بهدف الافتراس عند الحيوانات اللاحمة. وهو يظهر دون عوارض الغضب؛ ويزول التوتر العدائي عند الوصول إلى الهدف (الطعام). وهذا العنف ليس مدمِّرًا ولا ساديًّا. أما الإنسان – وهو حيوان غير لاحم في الأصل – فالعنف عنده قائم بذاته وتلقائي ومدمِّر. وتدل التجارب أن الحيوان الذي يقع في الأسر ويخسر حريته، ليوضع في محيط ضيق وفي بيئة غير بيئته الطبيعية، تظهر لديه ميول إلى العنف مماثلة للعنف العبثي المدمِّر عند الإنسان.
الرأي العامي يقول إنه كلما كان الإنسان بدائيًّا زاد ميلُه إلى العنف. ولكن (الباليونتولوجيا) تقول إن الإنسان العاقل، الذي أمضى 99% من حياته في مرحلة الصيد، منذ حوالى خمسين ألف سنة مضت، لم يكن يقتل ليستمتع بالقتل أو بالقسوة والعنف، ولم يكن مدمِّرًا ولا عنيفًا، ولم يكن يمثِّل بالضحية الحيوانية إلا بغرض الغذاء والكساء، ولم يكن يتسم بسلوك عدائي بين بني جلدته، بل كان يقتسم الطرائد معهم.
كان المجتمع البشري آنذاك مسالمًا بشكل عام: لم تكن حتى الكهوف محمية من احتمال اعتداء الإنسان؛ ولم تَظهَر التحصينات الهادفة إلى الدفاع ضدَّ عدوان البشر إلا في مجتمع الزراعة المتقدِّمة، أي بعد انكفاء المجتمع الأمومي وسيطرة الذكورية على الحضارة. ولا توجد في اللوحات التي رسمها الإنسان البدائي كلِّها أية مؤشرات على حروب ومعارك أو على قتل للإنسان، لأيٍّ سبب كان.
ويتفق علماء النفس على أن الدوافع المكوِّنة للشخصية الثقافية ترتكز إلى عامل الحرية وتحقيق الذات أساسًا. وتتفق التجارب في مجال علم النفس التجريبي على أن الإحباط والقهر وقمع الحرية هو الأساس في الاغتراب والعنف، في حين لا تلعب العوامل الغريزية، مثل الشبع من الطعام والجنس، إلا حيزًا ضئيلاً جدًّا من وعي الإنسان المعاصر ودوافعه العنيفة. وتتأثر هذه الدوافع بالثقافة، فتحرِّضها هذه وتوجِّهها توجيهًا سليمًا أو مرضيًّا.
إذن العنف لدى البشر ليس من طبيعة ، إنما هو خاصية اجتماعية نَمَتْ الحضارة ونشأت معها؛ وبالتالي هو ليس سلوكًا مرضيًّا فرديًّا لإنسان بحدِّ ذاته. وإن اعتبرنا أن شخصية الجماعة هي ثقافتها، يكون العنف إذن فعل ثقافي مكتسب.

ب-العنف الخبيث: وهو عنف يختص به الجنس البشري؛ وتندرج فيه السادية وحبُّ الموت والتدمير. وهذا النوع من العنف مكتسب حتمًا؛ إذ من الممكن إثارته، والتأثير عليه، سلبًا أو إيجابًا، بواسطة العوامل الثقافية.
وهذا النوع من العنف متفشي في المجتمع بأقسام مختلفة، ودرجات متمايزة، ويمكن ذكر بعضها كما يلي:
*العنف الفردي: ونبدأ بالعنف الفردي، لنجد أنه كان دائمًا ردَّ فعل على عنف اجتماعي واقتصادي. وبين الفعل وردِّ الفعل، بين الفردي والاجتماعي، يدور المجتمع في دوامة. والنتيجة عنف متصاعد من الفرد، إلى العائلة، إلى أرجاء المجتمع كافة، ليرتدَّ عنفًا اجتماعيًّا باسم القيم والعقائد والأخلاق.
يقوم العنف الفردي على ردِّ فعل توحدي، حيث يتوحد identify الفرد أو الجماعة مع نموذج لفرد زعيم أو معلِّم أو مربٍّ، مسوِّغين العنف بالإصلاح. ويتَّسم المجتمع الذي يهيِّئ لثقافة العنف بجملة من المظاهر:
- انتقال السلوك والعادات من جيل إلى آخر انتقالاً جامدًا.
- تحكُّم العادات والتقاليد بالسلوك البشري، لا القانون والتربية والعلم.
- نظام اجتماعي تحكُمُه مراتب عائلية ودينية واجتماعية واقتصادية جامدة.

*العنف ضد المرأة: تشكِّل المرأةُ ساحةً عظمى لممارسة ثقافة العنف. إنها ملكية جماعية للعشيرة والقرية والأسرة والزوج والأب والابن، وربما للعمِّ والخال. جسدها ليس ملكًا لها، وليس لها أن تناقش أو تختار أو تحلِّل. وقد أثبتت الدراسات أن الأمم التي تربِّي أطفالها على العنف، ولو لجيل واحد، بحجة البناء أو بذريعة الدفاع ضدَّ العدوان، لا تستطيع، فيما بعد، تلافي توريث هذا العنف للأجيال اللاحقة إلا بجهود شاقة وكبيرة. وهكذا، وكما يجري تقسيم للعمل على أساس الجنس في المجتمع الذكوري، يجري توزيع للأدوار في ممارسة العنف. وتشكِّل الزوجات 76.6% من حالات العنف الواقع على المرأة، في حين يشكل الأبناء 28.6 % من حالات الاعتداء الأسري.
فالأشخاص الذين تربوا على العنف أطفالاً يمارسونه تلقائيًّا مع أبنائهم. فالطفل المعرَّض للعنف لا يستطيع تمثُّل عنف أبيه، بل يغلي العنفُ في داخله ويختزنه، لينقله إلى أبنائه. وكذا الأم: فالأمهات اللاتي يمارسن العنف على أبنائهنَّ يتميَّزن بشخصية ضعيفة غير ناضجة؛ وتبيِّن الدراسات أن معظمهن تعرَّضن لعنف في طفولتهن.
وفي مرحلة معينة من نموِّ العنف، يبدو أنه هو المناخ الطبيعي للمجتمع! فيظهر استعبادُ المرأة ليس كاستغلال لكائن مقهور، بل كأنه من طبيعة المرأة ذاتها، ويظهر استغلال البنات والأبناء كأداة في النفوذ وكجزء من العلاقات الطبيعية في الأسرة، بل كحقٍّ مقدس لها لا يجوز المساس به! والحال، لا يُبرَز من الدين إلا ما يؤكد ثقافة العنف وما يؤكد القناعة بالأمر الواقع، في حين أن التقاليد هي الملاذ الذي تفتخر به تلك الثقافة. وثقافة العنف تقف ضدَّ كلِّ ما يخرُج عنها: تلاحقه بالفضيحة، ويُستباح رزقُه وسمعتُه، تشفِّيًا وبطشًا. فالرجل المشحون بمشاعر العنف، المقهور من الخارج، لا بدَّ أن يُسقِط العنف والهوان على امرأته، فتردُّ هي، بدورها، لعبة العنف الذكورية بلعبة العجز الأنثوي والكذب والنميمة والمكر والكيد.
ولعل في موقف بعض القوى المتنوِّرة والثوريةِ من المرأة مثالاً صارخًا على مآل الوسطية في الثقافة. إن المرأة هي حصن حصين للتقاليد ولثقافة العنف؛ لذلك يتخذها الارتداد المدني الحاصل حصنَه الأول، حيث تكون المرأة مرتكَزًا له، لأنها معقله الأكثر إيغالاً في البُنى الاجتماعية. ومادام هذا الحصن مغلقًا لن يُتاح للحداثة اختراقُ الطبقات الكثيفة التي لا تزال تحيط بكامل المنظومة السلفية.
حتى التيارات الشعبوية، بأغلفتها المختلفة، أعادت إنتاج القيم التقليدية الدارجة التي تمجِّد الذكورة كمرتكَز قيمي للعداء للآخر: الغرب. بذلك قبلت التيارات العلمانية بالمساواة بين الرجل والمرأة في السياسة، لكنها لم تقبل بها في القوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية. مثالنا على ذلك ما وَرَدَ في الميثاق الوطني الجزائري للعام 1976: على الاتحاد الوطني النسائي أن يكيِّف نشاطه مع المشاكل الخاصة التي يطرحها انخراطُ النساء في الحياة الحديثة، وعليه أن يدرك أن تحرُّر النساء لا يعني التخلِّي عن المعتقدات والتقاليد الأخلاقية التي يختزنها الشعب عميقًا.
ثم كيف يتطور ذلك الموقف الوسطي؟ هي ذي صحيفة المجاهد الجزائرية تقول: " ليست النساء مساويات للرجال. فجماهيرنا الكادحة هي في العمق تقليدية ومحافظة. إن اشتراكيتنا تستند إلى الأعمدة السبعة... لا إلى تحرر النساء." وهاهي جريدة المجاهد بعد سنوات تقول: "كان تحرر المرأة عاملاً حاسمًا في انحطاطنا." ثم تتابع: "إن خضوع المرأة لزوجها... لا يمنعها على الإطلاق من المساهمة في الحياة السياسية." ليتابع أحد الأصوليين، بعد سنة واحدة: "حتى صعود النساء إلى الجبال مع المجاهدين كان وبالاً عليهم، ولم يزدْ الجنود إلا خبلاً وفتنة، والله وحده يعلم ماذا كان يحدث هناك."

وتأتي ثقافة العولمة المتأمرِكَة والتطورات الاجتماعية العاصفة التي تمرُّ بها بلادُنا لتعطي أبعادًا جديدة للعنف الجنسي المسلَّط على المرأة. فالمرأة في الاقتصاد الطبيعي والمجتمع الزراعي والمدني التقليدي تكتسب مكانتها ليس من خلال وظيفة الإنجاب فحسب، بل من تربية الأطفال ومن دورها في الاقتصاد المنزلي. لكن هذه التطورات قد عملت، بدورها، على تضاؤل دور الأسرة في عملية التربية، من جهة، واضمحلال الاقتصاد المنزلي، بشكل خاص في المدن، من جهة ثانية. والنتيجة، بالتالي، هي تراجع دور المرأة ومكانتها.
وفي ظروف لا توفِّر للمرأة العلم والعمل، لن يكون أمامها إلا أن تستلم لآلة العنف الجسدي، كما يروِّج لها إعلامُ الغرب، متضافرةً مع آليات القهر الداخلية، لتمعن في الأنوثة ابتذالاً، وتحوِّلها إلى هَوَس الجسد وثقافة للسوق ونخاسة الأنوثة وهذا آخر ما تركتْه العولمة والتقاليد معًا لتلك المرأة في مجتمعاتنا. ويتغلغل القمع الجنسي الجمعي، بدوره، من خلال ثقافة العنف، حتى الأعماق، فتتفكَّك المشاعر، ويضعف التعاطف، وينهار احترام الذات.

*العنف ضد الطفولة: سننتقل الآن لفكرة أبعد: أين يتركَّز العنف في مجتمعنا؟ إنه يتركز، أول ما يتركز، في الأسرة وفي التربية. فالأم الجاهلة بأوليات التربية، المقهورة أصلاً بالعنف التاريخي الواقع عليها منذ الولادة، لن تستطيع أن تكون إلا حاضنة لثقافة العنف. إنها تشترك مع الأب في نقل نظرة خرافية إلى العالم لأولادها. فالوالدان – والأقرباء عمومًا – لا يجيبون عن أسئلة الطفل، بل يُغرقونه في التخويف والكذب؛ يكذبون عليه حتى لا يشرحوا له أو يغطوا جهلهم. إنهم يخيفونه، ولا يتورعون عن تهديده بالنار والحساب، ليبثوا أعنف المخاوف البدائية لردعه حتى عن أكل فتات خبز وَقَعَ على الأرض! – عنف ثقافي لن يجد الطفل–الرجل مخرجًا منه إلا بعنف مقابل. فبين قدسية الأبوة وحرمة الأمومة يسقط الطفل – باسم "الطاعة" – مهشَّمًا تحت وابل الأوامر والنواهي، فينشأ لديه نظامٌ لمفاهيم الحياة قائمٌ على التسلُّط والعنف والاعتباط.
وتعود المرأة لتردَّ هذا العنف هيمنةً عاطفيةً تعويضية من خلال أطفالها، تعويضًا عن غبن لَحِقَ بها باسم "الأمومة المتفانية"، فتغرس في نفوس الأطفال تبعية الحبِّ وحبَّ التبعية، وتطوِّقهم بعوالم الخرافات والغيبيات، فلا يكون لها إلا أطفال منفعلون، مستلَبون للخرافات، عُجَّز. فالأب، حصيلة خرافات أمِّه ومجتمعه وأكاذيبهما، يأتي ليكمل عمل الأمِّ، خوفًا وهيمنةً وتحريمًا: لا قانون، ولا عقل، ولا تجريد، ولا نقد، ولا شروط سليمة للنموِّ الصحي للعاطفة والعقل – ناهيكم عن الاعتداء الجسدي على الأطفال.

*العنف المدرسي: العنف أيضًا يبدأ في المدرسة؛ إذ تأتي المدرسة لتتابع ثقافة العنف، عبر سلسلة طويلة من العلاقات التسلُّطية، تفرضها منظومة عقائدية مركزية وسلطوية، قائمة على ثقافة العنف والعسكرة، فالمعلِّم عاجز عن الوصول إلى عقل الطالب إلا عبر العنف، تصير الدراسة، من خلاله، "تدجينًا"، والتعليم خصاءً للفكر، فلا تحليل ولا موقف ولا رأي ولا اختيار، بل تعليم تلقيني، يصنع عقولاً راكدة مستلَبة للخرافة. فالعقل التقني عقل فارغ، وهو مستعد لتلقِّي العقائد الجاهزة؛ إنه عقل خرافي البنية، تلتقي فيه الخرافات والروايات. وهذا النمط من "التعليم" سطحي، تلقيني، امتثالي، بعيد عن النقد والجدل؛ وسلطة المعلِّم فيه لا تناقَش، والطالب يطيع ويمتثل. تعليم يعزِّز الانفعال، ويكرِّس التبعية الفكرية والثقافية، ويَحْرِم من استقلال الرؤية وممارسة التفرُّد في الحياة. (من هنا فإن عملية التدجين المدرسي هي في صلب حركات الرفض والعنف المضاد لدى الشباب.)
أما المواد الدراسية فغريبة عن الحياة اليومية للطالب، فهي مواد فصامية، نصفها مستورد من خارج المجتمع، ونصفها الآخر مستورد من الماضي. فذاك الذي يلبس لبوس "المعلِّم" يتعامل مع الطالب لفظيًّا وخرافيًّا؛ وبذلك لا يعكس العلمَ ثقافةً، بل يبترُه عن جذوره المعرفية، فيختزله إلى قشرة خارجية تعمِّق الغربة، في حين تبقى لغة الحياة اليومية لغة الأمِّ مشحونة بالانفعال.
إن ثقافة العنف هذه تندرج في أرجاء التعليم والحياة كافة، في العمل كما في التدريب والتعليم، وفي العلاقة مع الجار والابن والأب والزوج والأخت. فإما أن تكون متسلِّطًا وإما مقهورًا، وغالبًا ما تكون الاثنين معًا، رازحًا تحت هرم من العنف الهائل. جبرية وقدسية وقَدَرية تسود أرجاء الحياة كلَّها: فأنت إما "مع" وإما "ضد" – في حين أن العصر كلَّه يتَّجه نحو تعليم لا يكتفي بنقل العلم والتقنية عبر القوانين، بل نحو علم مؤصَّل ثقافيًّا ومعرفيًّا-.

*العنف الاجتماعي: إن أية ثقافة تقوم على النرجسية، ورفض الآخر، والانغلاق، والارتداد إلى السلف، القريب أو البعيد، لن تكون إلا ثقافة للعنف، تغلق العقل وتحبط التنمية. إنها لا تصدر عن العقل، إذ ترفض العقلانية بحثًا واجتهادًا ونقاشًا؛ بل إنها تعصُّب انفعالي، في محاولة لإجبار الآخر على الخضوع. ولا تخلو من العنف أية ثقافة؛ لكن ما يميِّز وضعَنا هو تراجُع الثقافة المضادة، القائمة على الحوار والعلمانية والانفتاح الفكري والحضاري، لصالح التعصب والانغلاق.
بين قهر التقاليد، وقهر الأسرة والعشيرة، والقهر الاقتصادي والسياسي، ترزح شخصية الفرد العربي تحت عنف شامل يمنع تفتحها ومجابهتها لحقائق الحياة والوجود. تنتج لدينا ذهنيةٌ متصلِّبة، محدودة الأفق، حيث كلُّ تجديد وسؤال هو إثْم يستحق العقاب والتصفية، لأنه يزعزع المحرَّمات وحقائق الماضي المهشَّم. فكرٌ أشْوَهُ، وحيدُ الجانب، انفعالٌ مضطرب، وشخصيةٌ مفكَّكة. كلُّ ذلك يولِّد انكفاءً على الذات، وارتدادًا إلى الماضي، تمسُّكًا بالتقاليد، حتى تكاد ثقافة العنف تبدو جزأً من طبيعة الأمور. فالواقع أن علاقة الفرد بالمجتمع يسودها التناقض بين أمل أسطوري وإحباط تاريخي.
إن الوسيلة الدارجة في مجتمع العنف هي توجيه العدوانية نحو الخارج عبر التعصب الطائفي أو العرقي أو الديني. ويصير الأمل الأخير للفرد المقهور منصبًّا على منقذ موهوم، يُلبِسُه كلَّ الصفات المضادة لضعفه، وسرعان ما يرتد عنه، كفرًا وعنفًا مضادًّا، ليغرق في دوامة جديدة من العنف.
ولعل موقف الإنسان، في مجتمع العنف، من القانون يعطينا فكرة عن تفكُّك شخصيته، حيث لا يكون الاعتداء على القانون محرَّمًا، بل يكون خوفًا من العنف! فالقانون لا يُفرَض إلا على مَن لا يمتلك القدرة على خَرْقِه. ليس هناك احترام للقانون، بل رضوخ وإرغام – ولك أن تخترق القانون إذا استطعت أن تنفد بجلدك! فإن ضعفتْ سلطةُ القانون، وتراجعتْ قدرةُ المجتمع على فَرْضِه، ينفجر العنف انفجارًا مذهلاً، وتنفجر العدوانية الكامنة، ويتعمَّم الاعتداء على القانون، واستباحة الحدود والممتلكات، دون مراعاة للمُواطَنة والجيرة والمشاركة أو الانتماء أو حقوق الإنسان.

*العنف الفكري والسياسي: كلُّ المجتمعات التي قامت على عقائد، لا على قيم للإنسان، غدت فريسة للعنف الاجتماعي، وأضحتْ فيها المؤسَّسة بديلاً عن العقيدة، والطقس بديلاً عن القيمة والمغزى الديني أو العقائدي. من هنا فإن ثقافة العنف في الفكر والسياسة تقوم على عقيدة مركزية توتاليتارية، لا سبيل إلى تقويضها بغير العلمانية.
والعلمانية، في القرن الحادي والعشرين، لم تعد تعني مجرَّد فصل الكنيسة أو الفكر الديني الغيبي عن الدولة والتشريع والإدارة والثقافة، بل أصبحت تعني رفض فَرْضِ كلِّ مسبق عقائدي على العقل والإنسان. من هنا فإن العلمانية هي الطريق للتأسيس لثقافة حقوق الإنسان.
فأية عقيدة أو مؤسَّسة تضع نفسها فوق المُساءلة والجدال والنقد والحوار ليست علمانية، مهما ادَّعت العقلانية والعلم؛ بل هي تؤسِّس لثقافة العنف والتعصب. وأية جماعة تغتصب أدواتِ الحوار، مدَّعيةً احتكار الحقيقة، بحقٍّ إلهي أو شعبي، لا تلبث أن تُخضِع المؤسَّسة والمجتمع المدني لسطوة مزدوجة: سطوة التقاليد وسطوة الاستبداد. فالضمانة الوحيدة ضدَّ ثقافة العنف هي العلمانية. والعلمانية ليست نفيًا لقيم السماء، ولا لقيم الأرض، بل هي تكريس لعقل الإنسان الحرِّ.

*العنف والعولمة: وفوق ثقافة العنف التي تعشِّش في مجتمعاتنا، يأتينا القصف الثقافي البخس لثقافة العولمة. إن العولمة لا تنقل إلينا القيم التي أسَّستْ لنهضتها: الديموقراطية، والعلمانية، وقيم المجتمع المدني، والمُواطَنة، بل هي تقصفنا بالتفاهة والعنف العبثي والتسطُّح الفكري، باسم العولمة الثقافية. فالعنف الثقافي هنا "عدوان ثقافي"، لا حوار حضارات، وتكريس للتفوق ولمنهج الإبادة الثقافية والبشرية.[ ]
وما يقدَّم لنا على أنه نظام للسوق العالمية يهدف إلى ترسيخ فكرة الخضوع لضرورات الإنتاجية بالمعايير الغربية، وكأن الاقتصاد ليس إلا علمًا للأشياء، علمًا للتنمية الاقتصادية فحسب. ويبيع لنا إعلامُ العولمة الجنس العنيف والعنف الجنسي بأبخس الأسعار وبنفس السهولة التي يبيع بها أهم أخبار المجاعات والحروب. وإلى جانب العنف المباشر، تقوم ثقافة العنف العولمي بتكريس مفاهيم البطولة والخلاص الفردي: "اقتل، واضرب، ومزِّقْ، وانفد بجلدك!" عنف فردي يكرِّسه عنف جمعي، ويركَّب فوقه عنف كوني باسم العولمة والأمركة.
*** *** ***
3-الحلول المطروحة:
هل من مَخرَج من حلقة العنف المجنون؟
يجب أن ندرك، أولاً، ذلك الحيِّز الهائل الذي يحتلُّه العنف وثقافة العنف، بدءًا من حياتنا اليومية، إلى مختلف جوانب الحياة الفكرية والسياسية. ولا بدَّ، بعد إقرارنا، من أن نحرِّر الدراسات والبحث العلمي، لتغدو شفافة، سواء في علم الاجتماع أو في غيره من المجالات.
ثم إن مواجهة كلِّ الأصوليات في المجتمع تحتِّم إعادة الاعتبار لمؤسَّسات المجتمع المدني فهي وحدها القادرة على مواجهة الفكر الشمولي والأصولي، وعلى محاصرة ثقافة العنف. فلقد أثبتت المؤسَّسات السياسية فشلاً ذريعًا في معالجة جملة من القضايا الاجتماعية والجماهيرية، بدءًا من محو الأمية، إلى تحرر المرأة، إلى الثورة الثقافية، إلى حماية المدن والآثار.
من جهة أخرى فإن أهم الحلول المطروحة وأكثرها نجاعة هو:
* تأصيل الديمقراطية، وثقافة حقوق الإنسان :
فلا بدَّ لثقافة حقوق الإنسان من أن تؤسَّس على نهضة مفهوميه جديدة للمُواطَنة، تبدأ، أول ما تبدأ، من الأكاديميات والتعليم. إن ثقافة حقوق الإنسان هي التي تسمح بإعادة تأسيس مجمل العملية التربوية ضدَّ أشكال الفكر المسبق كافة، وبتكريس الوحدة الثقافية بتعزيز التنوع والحرية القائم على مبدأ الحوار والقبول بالآخر، وبإعادة التأسيس للعملية الثقافية على أساس إعادة التجديد من الداخل والانفتاح على الخارج.
و الأهداف المتعلقة بالتأسيس لثقافة حقوق الإنسان ليست منوطة بطبقة بعينها، مع أن طبقات بعينها قد تلعب أدوارًا تاريخية فيها. إنها نهضة تشمل البُنى الاجتماعية والفعاليات السياسية كافة، لتصهرها حول أهداف النهضة – نهضة تقوم على تكتل تاريخي للمجتمع والأمة بأسرها، لتكريسها، بكلِّ طاقاتها، لهذه الأهداف. وهذا لا يعني أن تتخلَّى الطبقات والأحزاب عن مصالحها وإيديولوجياتها، بل يعني تكريس هذه الأهداف لخدمة نهضة الأمة. إنها تعني وضع الوطني القومي النهضوي الديموقراطي زمنيًّا فوق الإيديولوجي. وهذا يحتِّم أن تقوم الأحزاب والقوى الاجتماعية بالتخلص من تشرنقها العقائدي ومن ترهُّلها الذي تمسخ به ارتباطاتها بالحياة وبقيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.
ونستطيع أن نقول إن القيمة العميقة لأية حضارة تكمن في المكانة التي تعطيها لكرامة الإنسان. وفي المقابل، فإن حرية الوطن ليست شرطًا مسبقًا لحرية الإنسان؛ بل إن حرية الإنسان وحقوقه ومكانته كمواطن هي التي تؤسِّس للتنمية الحقيقية. لكن ما حصل أنه إبان فترة الحرب الباردة تمَّ توظيف حقوق الإنسان السياسية، من جهة، وحقوق الإنسان الاجتماعية، من جهة أخرى، سلاحًا في الدعاية والتضليل السياسيين، خدمةً للمصالح الجيوبوليتيكية لهذه الدولة العظمى أو تلك.
فليس هناك أيُّ معنًى لدولة القانون، ولا لأية تنمية، من دون حقوق الإنسان؛ بل إنها هي التي يجب أن تشكِّل المدخل الرئيسي لحثِّ عملية التنمية والتأسيس لها. فمنطق حقوق الإنسان يجذِّر ويعزِّز أبعاد التنمية ويؤسِّس لها، لتصبح أعمق وأكثر أصالة في بنية المجتمع. وليس هناك أيُّ معنًى لدولة القانون، ولا لأية تنمية، خارج إطار تعزيز حقوق الإنسان وتكريس مبدأ المُواطَنة. وكما في السابق، فإن النضال في القرن الجديد من أجل حقوق الإنسان سينطلق، أولاً، من تصفية أشكال الثقافة والانتماء ما قبل المدنية، ومن هدم المصالح السياسية والثقافية للمستفيدين من أيِّ تقسيم للمواطنين على أساس طائفي أو عشائري أو عنصري، ثانيًا.
ولقد أثبتت التجارب أن القوانين لا يمكن أن تكفل حقوق الإنسان. لكن حقَّ الحياة والتعليم والتغذية والعمل والحماية ضدَّ المهانات كافة هي شروط لا بدَّ منها لنجاح التنمية، وليست مجرد أهداف مثالية عامة. إذ إن الجمع بين الأفق التنموي وأفق حقوق الإنسان، القائم على الانتماء الوطني (المُواطَنة)، هو الشرط لتحقيق تنمية بشرية في هذا العصر؛ بل إن كلاً منهما يعزِّز الآخر.
حيث غيَّر النضال من أجل حقوق الإنسان وجه العالم. وتنخرط فيه، أكثر وأعمق، ثقافةُ الجنسانية ، لتدعمه بزخم كبير من أجل تعزيز النضال العام من أجل حقوق الإنسان. وعلى الرغم من ذلك، فإن تسريع التنمية الوطنية لا بدَّ منه من أجل استئصال الفقر الذي يشكِّل العائق الأساسي أمام توفير الشروط الأساسية لتحقيق حقوق الإنسان.
مع ذلك، فإن العنف والقمع لا يزالان متجذِّرين بقوة في مجتمعاتنا، في حين تعاني المؤسَّسة القضائية من اعتباط ونقص كبير في الكفاءة، بسبب ظواهر الفساد. إذ لم تعد التدابير والأنظمة وحدها كافية لحلِّ المشكلة، بل إن الأمر بات يتطلب إعادة النظر جذريًّا في البنية الإدارية والمؤسَّساتية للقضاء ذاته. فإذا كانت العدالة هي الشرط الأساسي لتنمية حقوق الإنسان، فإن الشفافية هي العمود المحوري الذي ينبغي أن تدور حوله المؤسَّسة القضائية للحيلولة دون تسلُّط منطق مراكز القوة وجبروتها.
وحدها الديمقراطية تستطيع أن توفِّق بين الأشكال الخمسة لحقوق المُواطَنة، أي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية. إلا أن بعض الديمقراطيات تفشل في تجذير حقوق الإنسان: فهي لا تلبث أن ترتدَّ قمعًا لهذه الأقلية أو تلك، لهذه الثقافة أو تلك، أو لهذا الفكر أو ذاك؛ كما أن الأحزاب غالبًا ما تكون مبنية، من حيث المبدأ، بحيث تستبعد الأغلبية من المشاركة.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة