بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمه الله تعالى وبركاته:
مناظرة حول نظرية الحتمية القيمية للدكتور:أ.د. عبد الرحمن عزي
يقدمها الطالب محمد هاشم الكريم
مع الدكتور بوعلي نصير (جامعة الشارقة / جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة)
أولاً: أود أن أتقدم بخالص شكري وتقديري لأستاذي ومعلمي أ.د. عبد الرحمن عزي لقبوله المشاركة في هذه المناظرة الفكرية والأكاديمية المستنيرة حول نظرية الحتمية القيمية. كما أتقدم بخالص شكري وتقديري للدكتور بوعلي نصير من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة لقبوله الرد على الأسئلة المطروحة في هذه المناظرة حول نظرية الدكتور عزي، والتي نأمل أن تلقى من مجتمع علماء ومفكري علم الاتصال والإعلام في منطقتنا جل الاهتمام والتفاعل الفكري والنظري القيم والمستنير.
ثانياً:أود أن أوضح الفكرة الأساسية التي تقوم عليها المناظرة والطريقة التي اخترناها للعمل. تعتمد الفكرة الأساسية للمناظرة على قيام أحد طلاب أ.د. عبد الرحمن عزي المهتمين بالنظرية بطرح مجموعة من الأسئلة على الدكتور بوعلي نصير، الذي سيقوم بدوره بالإجابة على مجموعة الأسئلة وتقديم شرحه وتفسيره الكامل من منطلق معرفته وفهمه وتفاعله المباشر مع النظرية. وبعد هذه المرحلة الأولى، سيقوم أ.د. عبد الرحمن عزي في المرحلة الثانية بالتعليق المباشر على مجموعة الأسئلة المقدمة من الطالب ومجموعة الأجوبة المقدمة من الدكتور بوعلي نصير. وبذلك أردنا أن تكون لمشاركة أ.د. عبد الرحمن عزي في المرحلة الأخيرة من المناظرة الأثر الكبير لما سيقدمه لنا من تصحيح وتفسير وتوضيح وتعليق مباشر على أوجهه وعناصر النظرية، وأن تكون قيمة مشاركة "المنظر نفسه" هي بمثابة الحلقات التي تكمل دوائر الفكر والفهم والاستيعاب في فضاء أو "مخيال" النظرية.
ثالثاً: نود أن نشجع جميع المهتمين في هذا المجال على التفاعل المباشر مع المناظرة وعلى تقديم مشاركتهم الفكرية والنظرية من أجل استمرارية النقاش والتفاعل لإثراء روح هذه المناظرة. رابعاً، إن ما سيكون هناك من توفيق في هذا العمل فهو بفضل من الله عز وجل، وما سيكون هناك من تقصير أو أخطاء فهي من أنفسنا.
مناظرة حول نظرية الحتمية القيمية للدكتور/أ.د. عبد الرحمن عزي يقدمها الطالب محمد هاشم الكريم مع الدكتور بوعلي نصير:
السؤال الأول:
نود في البداية أن تذكر لنا بداية قراءاتكم لكتابات أ د/ عبد الرحمن عزي وما الذي استرعى انتباهكم بالأساس؟
الجواب الأول:
كانت بداية قراءاتي لكتابات أ.د.عبد الرحمن عزي خلال الموسم الجامعي 86-1987م .أثناء تلك الفترة كنت طالبا في السنة الأولى ماجستير (دراسات عليا ) بمعهد علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر وكان فضيلته(أي أ د.عبد الرحمن عزي ) يدرسنا مادة المفاهيم .هذه المادة مع الأسف لم ندرس منها إلا القليل لظروف خارجة عن نطاق الأستاذ وترتبط بالاضطرابات الكثيرة التي كانت تشهدها الجامعة الجزائرية آنذاك ...وقد تعرفت على فكر الأستاذ عبد الرحمن عزي من فعل كتاباته وتأليفه أكثر بكثير من فعل أقواله الشفهية أو محاضراته. فأنا لم التق به إلا في مناسبات قليلة ، ولكن علاقتي به كانت ولازلت لحد الآن من خلال ما يكتبه في مجلة 'المستقبل العربي' و'الباحث العربي ' والمجلة الجزائرية للاتصال وحوليات جامعة الجزائر ومجلة 'الإنماء العربي' للعلوم الإنسانية والتجديد الماليزية والمجلة التونسية للاتصال ...الخ. دون أن أنسى علاقتي الوثيقة بكتبه الكثيرة الدالة وأيضا اهتماماتي بالحوارات الفكرية الرزينة التي كانت تجرى معه هنا وهناك سواء عبر الصحافة الجزائرية أو الدولية أو بعض الفضائيات العربية. ولا أخفي سرا إذا قلت أن 90%من كتابات الأستاذ عزي عبد الرحمان موجودة بحوزتي ومصنفة تصنيفا خاصا بمكتبتي.
أتذكر أن أول دراسة أثارت انتباهي وأنا طالب دراسات عليا ، هي تلك الدراسة التي نشرت له بمجلة حوليات جامعة الجزائر، العدد01، تحت عنوان : "التدفق الإخباري الأطر المرجعية الثقافية والتجذر التاريخي " وكانت هذه الدراسة عبارة عن نقد لمنظار "جون ماريل " الإعلامي حول عملية التدفق الحر للأخبار ... ومن هذه الدراسة اتضح –لأول مرة – أن هناك بعدا حضاريا جديدا بدأ يلوح في الأفق في الدراسات الإعلامية. أثناء تلك الفترة كنت منكبا على قراءة فكر مالك بن نبي "الحضارية" وبعض كتابات محمد عابد الجابري "التراثية " وكتابات حسن حنفي "الفلسفية " ، ولما قرأت دراسة أ.د.عزى عبد الرحمن عن التدفق الإخباري أحسست أن هناك صلة فكر بين مالك بن نبي وعبد الرحمن عزي من جهة ، وبين عزي عبد الرحمن والجابري من جهة أخرى على مستوى المنهج ،الأسلوب،المفاهيم والأطر المرجعية .
وفي اعتقادي أن أول من انتقد علميا مرتكزات ما كان يسمى آنذاك بالنظام الإعلامي العالمي الجديد هو الباحث عزي عبد الرحمن الذي أشار أن أطروحات النظام الإعلامي العالمي (الهاجس الذي ساد مجتمعات العالم الثالث واقلق لجنة شون ماك برايد) لا تقترن بالتنوع الحضاري وخصوصية المجتمع الذي ننتمي إليه .مع الإشارة أن " د.مصطفى المصمودي" و" د.عواطف عبد الرحمن" نبها إلى خطورة النظام ولكن في غير الوعاء الحضاري الذي ننتمي إليه بكل أبعاده. فمسائل كالتحيز الإخباري ،التفاوت الإعلامي ،الهيمنة الثقافية ،التبعية الإعلامية تتطلب وعيا حضاريا يكرس الحلول النهائية لها وليس الحلول الظرفية التي أشار إليها الباحثون في لجنة الاتصال والمجتمع اليوم وغدا أو لجنة شون ماكبرايد التي كان يرأسها مختار أمبو، ولا أريد أن أدخل في تفاصيل هذه القضية لأنها تخرج عن سياق هذا السؤال . إن ثاني دراسة علمية استرعت انتباهي للدكتور عزي عبد الرحمن هي تلك التي نشرت في العدد الثاني من المجلة الجزائرية للاتصال والموسومة ب : "مسالة البحث عن منهجية بحث :إعادة النظر في نمط لاسويل " وتزامن صدور هذه الدراسة مع تسجيلي الأول بالماجستير تحت إشراف فضيلته .
وإذا كانت الدراسة الأولى (التدفق الإخباري.....) يطرح فيها الدكتور عزي نقدا معرفيا وبأسلوب حضاري متجذر تاريخيا ,فإن في الدراسة الثانية يطرح بديلا منهجيا يراعي الخصوصية الحضارية منتقدا نمط لاسويل أو النمط الأمريكي (تحليل المضمون دراسة الجمهور ودراسة الأثر ) في الدراسات الإعلامية الحديثة في الجزائر والعالم العربي .
إن أسلوب النقد المتبع في هاتين الدراستين ليس من باب بحث الأستاذ عزي عبد الرحمن عن التميز أو الانشغال بإيجاد الأخطاء الفرعية كما يفعل آخرون ....وإنما الضرورة تستدعي حضور "مرجعية حقيقية" للدراسات الإعلامية،ذلك أن أي علم ،كما يقول في مقدمة كتابه دراسات في نظرية الإتصال قائم على "النظرية والمنهج " المتبع في الوصول إلى الحقائق.
انشغل الدكتور عبد الرحمن عزي في أواخر الثمانينيات بالإعلام الإسلامي (نسبيا ) فساهم فيه بدراسة (كانت في المستوى ) تحت عنوان "الإعلام الإسلامي : تعثر الرسالة في عصر الوسيلة" وساهم بهذه الدراسة في ملتقى الفكر الإسلامي الثالث والعشرون الذي انعقد تحت شعار نحو مجتمع إسلامي معاصر وذلك في الفترة ما بين 28 أغسطس و5 سبتمبر 1989 م بمدينة تبسه (شرق الجمهورية الجزائرية ) ، أثارت هذه الدراسة التي ألقيت كمحاضرة جدلا بين الدكتور عبد الرحمن عزي والشيخ د.رمضان البوطي حول بعض المفاهيم التي كانت تبدو للشيخ متحيزة أو غير علمية كمفهوم :الإعلام شبه العلماني ولكن المتمعن في الدراسة يجد أن المقصد ليس نوايا الأشخاص وإنما الممارسة الإعلامية التي تغيب فيها المرجعية الحضارية الحقيقية ....
وعلى العموم، رغم مرور عشرين سنة على صدور هذه الدراسة، فإنها لحد الساعة تعتبر مرجعا أساسيا في بحوث الطلبة بجامعتنا. تعرض عبد الرحمن عزي إلى فكرة الإعلام الإسلامي (مشروع طرحه الدارسون في المشرق العربي ) كان أيضا من خلال دراسة أخرى مناهج الإعلام والدعوة.إلا أنه توقف عن الاستمرار في هذا المشروع لأسباب يصفها بنفسه "المشروع يخلو من الأدوات ويجعل النص نهاية تحليله "....
أثناء هذه الفترة (منتصف الثمانينيات ) انشغل أيضا بالبحث في الظاهرة الإعلامية في المنطقة العربية استنادا إلى الفكر الاجتماعي المعاصر في القرن العشرين. فكتب الدراسات الآتية :"التحليل النقدي والبنية المؤسساتية في المجتمع العربي ؛التفاعلات الرمزية وحقيقة الحياة الاجتماعية الرمزية في المجتمع العربي ؛ما بعد البنيوية والمعالم الثقافية العربية ؛المدارس الاجتماعية في القرن 20 وتأملات حول المنظار الخلدوني الخ. .إن الذي استرعى انتباهي في هذه الدراسات هو لأول مرة يأتي الانشغال "بهم" التراث وبالعلماء المسلمين الأوائل والمحدثين في الدراسات الإعلامية ، ولم يكن انشغال الدكتور عزي بهؤلاء "الآباء " معرفيا بل كان منهجيا .هذه الخلفيات وغيرها شكلت الأرضية الفكرية لميلاد نظرية الحتمية القيمية الإعلامية . وفتحت هذه النظرية المجال لدراسات أخرى تصب في نفس السياق وخارجة عن المألوف في الدراسات الإعلامية العربية . فكتب عزي عبد الرحمن عن الإعلام والبعد الثقافي وكيف يتقلص ألقيمي في ظل حضارة الصورة أو المرئي ،و كتب عن الثقافة وحتمية الإتصال متخذا القيمة كمرجعية ، وكتب عن ثقافة الطلبة والوعي الحضاري ، والتكوين الإعلامي والتصورات المرجعية وكتب عن ثقافة وسائل الاتصال والتحدي الحضاري الخ.
ومن الدراسات الأخيرة التي تثري نظرية الحتمية القيمية الإعلامية وتعطي لها أبعادا أخرى جديدة هو ربط الزمن الإعلامي بالزمن القيمي في دراسته عن الزمن الإعلامي والزمن الاجتماعي ،ربط عنف اللسان والإعلام بانكسار البنية القيمية في فعل الكلام ،اللغة وما تحمله من قيم ومعاني ،و علاقة ما يجري في العقل (كبنية بيولوجية) مع القيمة، عولمة المكان وتفكك العلاقة القيمية والتاريخية الخ . وتتضمن دراسات وأبحاث عزي الأخيرة مفاهيم جديدة في حقل الإعلام والاتصال يمكن الإشارة إليها من دون أي تفصيل وهي:المخيال الإعلامي (و اسميه أنا الوجدان الجمعي ) ؛الزمن الإعلامي ،المكان الإعلامي، الخوف الإعلامي ،فعل السمع والبصر ،الرأسمال الإعلامي الرمزي؛الأثر البيولوجي؛ بيولوجية الأثر الإعلامي ؛بيولوجية القيمة الخ.
ويعمل حاليا الدكتور عزي عبد الرحمن على تطوير مفهوم آخر يسمى "الكتلة الإيمانية " وهي الجماعة التي تتحرك في دائرة القيم بغض النظر عن الانتماءات الوجودية الفرعية الأخرى ، وعلى اعتبار أن تشكل الجماعة في البيئة الإسلامية ظل –كما يقول- إلى حد كبير يتحرك تاريخيا إما بالارتباط بالقيمة أو الابتعاد عنها رغم حضور العوامل الأخرى. ونتمنى نحن بدورنا له التوفيق والنجاح في هذه المهمة .
السؤال الثاني:
ما الذي دفعكم إلى تأليف كتابكم "الإعلام والقيم:قراءة في نظرية المفكر الجزائري عبد الرحمن عزي؟" ولماذا أجريتم مقارنة بين نظرية الحتمية القيمية الإعلامية المنتسبة إلى د. عبد الرحمن عزي والنظرية التقنية الإعلامية المنتسبة إلى ماك لوهان وباللغة الفرنسية؟
الجواب الثاني:
إن الشيء الذي دفعني إلى تأليف كتاب تحت عنوان "الإعلام والقيم:قراءة في نظرية المفكر الجزائري عبد الرحمن عزي" هو أولا:الرغبة في البحث العلمي الإعلامي من منطلق أطر حضارتنا ،فلا قيمة للبحث العلمي إذا خلا من الغيرة الوطنية والانتماء الحضاري التي من دونهما سيكون العلم مجرد أرقام وإحصاءات قد تعني شيئا وقد لا تعني شيئا على الإطلاق. وثانيا:كما سبق أن أشرت في ذات الكتاب هو أن كتابات وأبحاث البروفيسور عبد الرحمن عزي عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات، إذ أن هناك خيطا رفيع المستوى يشكل حلقة وصل أو حزام بين هذه الحلقات. فأبحاث عبد الرحمن عزي مع كثرتها (أزيد من 60 دراسة ) وتنوعها (في الصحافة، في مجال وسائل الإعلام الجماهيرية وفي العلاقات العامة، في مجال تكنولوجيا الاتصال، في مجال التكوين الإعلامي، في مجال نظريات الاتصال، في مجال المناهج الإعلامية، في مجال الترجمة الخ.) تشكل سياقا لنزعة حضارية مفعمة بالفكر والتصورات الحضارية المتعالية. وكما أشرت في كتابي أيضا .فإن ما يكتبه عبد الرحمن عزي هو الإنسان المتكامل غير المشوه حضاريا، مع حضور هذا الإنسان في علاقته مع محيطه الاجتماعي والتاريخي والحضاري.كما أن من بين الدوافع هو محاولة خلق حوار بين القراء والمهتمين حول نظرية عبد الرحمن عزي. وهذا الحوار الذي بدأ يتجسد ويتسع بدأت معه تتجلى كنوز هذه النظرية العالمية. أما ما يخص الشق الثاني من السؤال فإن المقارنة التي أجريتها بين الباحثين "عبد الرحمن عزي" و" مارشال ماك لوهان "،هي في الحقيقة مقارنة بين الحتمية التقنية الإعلامية المنتسبة إلى مارشال ماكلوهان والحتمية القيمية الإعلامية المنتسبة إلى عبد الرحمن عزي فهناك –في اعتقادي –نقطة وصل بينهما،هي في تصديهما للازمة المرجعية المعروفة في نظريات الاتصال .الأول أي ماك لوهان في الستينيات من القرن الفارط والثاني أي عزي عبد الرحمن في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، والهدف من المقارنة باللغة الفرنسية هو إعطاء صدى أكبر لنظرية عزي عبد الرحمن مثل ما فعل غاز نوفgazeneve) ) عندما قدم قراءة لـ:ماك لوهان سمحت بتوسيع دائرة فهمه خارج لغته الأصلية "الانجليزية"
السؤال الثالث:
يرى الدكتور عزي أن الاتصال “ كنظرية “ تختص بمجال وسائل الإعلام والاتصال “ كحركية تفاعل اجتماعي " - يعاني من أزمة مرجعية حقيقية. نود أن ترسم لنا تصوراً نظرياً لهذهالأزمة من واقع تفاعلك وقراءاتك لأفكار وأعمال الدكتور عزي ومن واقع إطلاعك على نظرية " الحتمية القيمية " ؟
الجواب الثالث:
إن من أكثر المشاغل التي شغلت علماء الاتصال في الثلاثينيات من القرن الماضي مسألة العلاقة بين وسائل الاتصال والإعلام وجمهورها. ولقد اهتم المؤسسون الأوائل (les pères fondateurs) لعلوم الإعلام والاتصال بالتأثيرات(impact) الذي تحدثه تلك الوسائل في الأفراد والجماعات من خلال ما تنشره أو تبثه. وقد أدى هذا الاهتمام بتأثير وسائل الإعلام والتركيز المكثف على تفسير نوع ذلك التأثير وعلاقته بحركية التفاعل الاجتماعي إلى تعدد المقاربات والنظريات والنماذج التي تحاول أن تقدم تفسيرا للطريقة التي تؤثر بها وسائل الإعلام ،فظهرت هذه النظريات :الحقنة تحت الجلد ،التأثير المحدود ،التدفق الإعلامي على مرحلتين ،ترتيب الأولويات ،دوامة الصمت ،التأثير في حالات ،إثارة الأفكار والمناقشة ،المحيط الكامل ،الاستخدامات والاشباعات الخ. وتفيد هذه النظريات (بعض النظريات تتداخل فيما بينها) في وصف الظاهرة الإعلامية ك: "مبنى ظاهري" وليس ك : "معنى تتداخل فيه السياقات "رغم اهتمامها بالمتغيرات .كما أنها تقدم تفسيرات مبنية على متغيرات ملموسة يسهل قياسها إحصائيا، في غياب شبه تام للمتغيرات المعنوية (ربما لصعوبة قياسها ميدانيا). ويستفيد الطلبة من هذه النظريات (التي أصبحت تدرس في كل كليات وأقسام علوم الإعلام العربية) على مستوى معرفة مثلا أنواع التأثير كالقول تغيير المواقف والاتجاه ،الإثارة العاطفية،أو القول أن هذا التأثير ايجابي والآخر سلبي ،و هذا تأثير تراكمي والآخر دفعة واحدة الخ.. كذلك تفيد في معرفة شروط التأثير كالقول مثلا:العوامل التي لها علاقة بالبيئة،و العوامل التي لها علاقة بالمصدر والعوامل التي لها علاقة بالرسالة وهكذا .ثم معرفة مجالات التأثير كالتنشئة الاجتماعية،الإثارة الجنسية، العنف الخ . وهي من هذا المنطلق تفيد في تفسير بعض الجوانب الجزئية في الإعلام والاتصال كما يقول البروفسور عزي عبد الرحمن ولكنها (نعم) لا تتضمن أبعادا فكرية أو فلسفية واضحة ،فهي تعاني أزمة مرجعية "حقيقية ".وهنا أوافق د.عبد الرحمن عزي عندما قال أن السبب الرئيسي في غياب هذه المرجعية هو أن الاتصال كعلم ارتبط تاريخيا بظاهرة تقنية كاكتشاف الإذاعة والسينما (الفيلم )،هذا الاكتشاف التقني أخر المنظورات الفكرية والفلسفية التي تصب في مضامين هذه الوسائل وترك الجدل مفتوحا إلى حين فيما إذا كان علم الإعلام علم "وسيلة" أم علم "رسالة"؟ والحل- في اعتقادي – هو في التجاور أو الترابط المتفاعل بين الوسيلة والرسالة. ولذلك لا ينبغي تدريس هذه النظريات كأدوات وتقنيات فحسب بل ينبغي تدريسها كغايات وأهداف وهنا يختلف المنظور إليها من منطقة إلى أخرى بمعنى البيئة والحضارة عاملان يساعدان على الفهم الجيد لهذه النظريات وهو ما تؤكد عليه المقاربات الفرنسية لدراسة الظواهر (être géographique) و(être civilisationnelle). والذي لا يخدم الثقافة الفرنسية الأفضل نسيانه ،كما يقال،هذه نزعة ولماذا لا يكون لنا المثيل.؟ فهذه النظريات بدون المنظورات قد تساعد على تشويه عقل الدارس لأنها ولدت في بيئة غير البيئة التي نعيش فيها وفي زمن غير الزمن الذي نحياه . فمن الغباوة أن تلقن للطلبة "ميكانيكيا" من دون تنظير يأخذ بعين الاعتبار بعض الأسس والمبادئ الموجهة موضوعيا (و ليس ذاتيا ) لها.
إن اهتمام الدكتور عزي عبد الرحمن بالمنظور الاجتماعي (الفلسفي ) في دراسة الاتصال كظاهرة ذات أبعاد متعددة يعود إلى اهتمامه بالفكر الاجتماعي والفلسفي المعاصر. وقد ساعده هذا الفكر على استيعاب ظاهرة الاتصال بمختلف تجلياتها ،و إن احتكاكه بإتباع بعض النظريات في أمريكا أزال عليه الغموض . فكتب عن الظاهرة الاتصالية الإعلامية انطلاقا من بعده الحضاري وبالاستناد إلى الفكر الاجتماعي المعاصر ،وربما العامل الرئيسي في هذا الاتجاه هو عودته إلى الجزائر فاستقل تدريجيا عن النظرية الاجتماعية الغربية .وبدأ ينظر إلى ذاته (هويته) ولو من زاوية خارجية ،فكتب عن ابن خلدون واستوقفته إسهامات مالك بن نبي ،واستمر بحثه (يقول هو النبش) في التراث إلى إن جاء ميلاد هذه النظرية الاتصالية القيمية التي تتميز ثقافيا وحضاريا عن النظريات الأخرى من دون أن تلغيها بل بالعكس تساعد على فهمها فهما صحيحا .و إذا كان أصحاب نظريات الاتصال السابقة اهتموا بالأثر أو التأثير الذي تحدثه وسائل الاتصال ،فإن نظرية عبد الرحمن عزي يصب جزءا منها في هذا الإطار . ومن هذا المنطلق فدراسة الأثر لا يتم في منظوره من دون مرجعية تربط محتويات وسائل الإعلام بالقيمة .يقول عزي :"إن التأثير يكون ايجابيا إذا كانت محتويات وسائل الإعلام وثيقة الصلة بالقيم ،و كلما كانت الوثائق أشد كان التأثير ايجابيا ،وبالمقابل يكون التأثير سلبيا إذا كانت محتويات وسائل الإعلام لا تتقيد بأي قيمة أوتتناقض مع القيمة و كلما كان الابتعاد أكبر كان التأثير السلبي أكثر...." وقد استخدم الأستاذ عزي عبد الرحمن أداة منهجية من الفكر الاجتماعي البنيوي في الكشف عن هذه التأثيرات الايجابية أو السلبية وهي أداة التضاد الثنائي والتي ترى أن الايجابي لا يفهم إلا عند مقابلته بالسلبي . فتعزيز القيم يقابله تحييد القيم ، توسيع دائرة الاستفادة من الثقافة يقابلها تبسيط وتشويه الثقافة ،تحقيق الانسجام وتعزيز الترابط الاجتماعي يقابلها أضعاف نسيج الاتصال الاجتماعي ،ونقد الذات وتغييرها يقابلها منع الفرد من نقد ذاته وتغييرها الخ.
السؤال الرابع:
إن أي علم من العلوم الإنسانية، مثل علم الاتصال والإعلام، يكون قائماً بالأساس على" النظرية " – الجانب النظري - وعلى " المنهج أو المنهجية " – الجانب المنهجي - المتبع في الوصول إلى الحقائق . وبما أن " نظريتنا " نحن في المنطقة العربية والإسلامية لعلم الاتصال والإعلام ليس فيها الكثير من " التنظير “، نود أن تطلعنا على مساهمة نظرية الحتمية القيمية في هذا المجال ؟ وسنترك السؤال حول " ليس فيها الكثير من " المنهج أو المنهجية " للمراحل القادمة من تطور علم الاتصال والإعلام في المنطقة العربية والإسلامية؟
الجواب الرابع:
أرى أنه من الضروري في البداية تحديد مفهوم "النظرية " الذي على أساسه تتضح مسألة فقر التنظير الإعلامي في المنطقة العربية والإسلامية. فالنظرية في معناها الفلسفي مرادفة لكلمة نسق (système) باللغة الفرنسية. والنسق لغة ما جاء من الكلام على نظام واحد . والتنسيق هو التنظيم أو الترتيب.وبهذا المعنى يطلق النسق على المجموعة الشمسية.قال الله تعالى "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " (الآية 40 من سورة يس) ويطلق النسق أيضا على الجهاز العصبي وما شابه ذلك.... ويستخدم علماء المنطق اصطلاح النسق على مجموعة من القضايا المرتبة في نظام معين بعضها مقدمات لا يبرهن عليها في النسق ذاته والبعض الأخر يكون نتائج مستنبطة من هذه المقدمات. كما تعني "النظرية" جملة تصورات مؤلفة تأليفا عقليا تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات أو هي فرض راهن ينتظر تحقيقه مستقبلا بالصدق أو بالنفي أو بالإضافة أو بالتعديل.
انطلاقا مما سبق، ولتشخيص الحالة الراهنة لعلوم الإعلام والاتصال يمكن طرح هذين السؤالين :هل هناك افتراض علمي جوهري يمثل الحالة الراهنة لعلوم الإعلام والاتصال ويشير من خلال البحوث والدراسات الإعلامية إلى أن هناك نتيجة ستنتهي عندها جهود العلماء في حقبة معينة من الزمن ؟
هذا السؤال الكبير يتمثل في مدى حضور أو غياب الوعي بالمشكلة الإعلامية في المنطقة العربية والإسلامية ،أما السؤال الثاني فيمكن صياغته على النحو الآتي :هل الباحثون في علوم الإعلام والاتصال في العالم العربي والإسلامي ينتمون إلى أنساق فكرية أو فلسفية تسمح لهم بالتنظير وإيجاد البديل للظاهرة الإعلامية الحالية؟
إن جهود علماء الإعلام والاتصال في المنطقة العربية والإسلامية موجودة وبكثرة، لكنها جهود فردية ومنعزلة عن بعضها البعض.الكل يجتهد في مجال معين ومن زاوية خاصة إما نقليه أو عقلية أو تأصيلية أو من باب الكتابة لا غير ،أو من باب البحث عن الشهرة أو من أجل الترقية في المنصب الأعلى ... وتتعدد الأغراض والأهداف والمصالح الضيقة في ظل غياب "الفكرة الإعلامية الراسخة" التي ترتكز إلى قيم هادية بحيث تصبح هذه الكتابات والإسهامات الكثيرة تجسيدا لها وتعبيرا عنها، منها تنطلق ووقفها تعمل وفي ضوء عطائها تسير. فكفانا تيها وضياعا في كل المجالات بما فيها الإعلام ،فاليهود تميزوا تاريخيا بتشبثهم "بالفكرة " المنحدرة من رؤية دينية توراتية تلمودية واستمساكهم بها وحرصهم عليها في جل أدبياتهم حتى الإعلامية.
فنحن في أمس الحاجة إلى نظرية إعلامية تلتف حولها هذه الجهود المشتتة وتنطلق منها في رسم ملامح المستقبل،ومن هنا تأتي أهمية نظرية الحتمية القيمية الإعلامية التي تجمع بين الخصوصية الثقافية التي تتلون بتلون المرجعية الدينية والفكرية التي تنتمي إليها من جهة وبين الأدوات العلمية المجردة التي لا تحمل جنسية بشرية ولكنها إرث للبشرية جمعاء من جهة أخرى.
السؤال الخامس:
إن احتكاك الثقافة العربية والإسلامية مع العالم الغربي (الأوربي والأمريكي) قديماً وحديثاً، قام بفتح أو بتوليد بابين، باب " التراث " قديماً وباب " الأزمة المرجعية " حديثاً – والتي أنتجت بدورها عندنا نحن في العالم العربي والإسلامي ما يسمى بمرحلة " الوعي بالذات “. وبمعنى آخر يريد الدكتور عزي التخلص " أو التحرر " من ثقل الوعي بالمشكلة – " الوعي بالذات " – والتحول والانتقال إلى مجال دراسة الظاهرة ( هنا نقصد الظاهرة الإعلامية ) كما تبدو على الواقع ( كما هي ) بدون الوقوع في قبضة النصوص القبلية السائدة ( باب التراث قديماً )، أو الوقوع في القبضة المرتبطة حديثاً بما يعرف بالشك الغربي ( الشك المتواجد عند الغرب وعند الآخرين بعدم إمكانية تغير الظاهرة الإعلامية نفسها من قبضة المنظور والمنهجية الغربية نفسها )، فهناك الكثيرين ممن يشك في إمكانية التغير عند الغرب نفسه. ما هو تعليقكم على هذا التصور النظري والمنهجي والمرتبط بانطلاقة الدكتور عزي نحو نظرية الحتمية القيمية ؟
الجواب الخامس:
هذا السؤال يرتبط بقضية معروفة قديما (ولازالت ) في التراث العربي الإسلامي وهي جدلية النقل أو العقل وعلاقة الأنا بالأخر، وتسمى ب :"جدلية النصوص القطعية" والنصوص الغربية في مسألة فهم الإنسان العربي المعاصر ،و يوحي السؤال في نفس هذا الإطار بإمكانية تحرر الذات من قبضة النصوص القبلية (التراث) وقبضة النصوص الغربية (الحداثة ) ودراسة الظاهرة كماهي قي الواقع بدون هذه التأثيرات . صحيح نحن نقرأ واقعنا من خلال نصوص تراثية مكتوبة، من خلال توسط نص، إننا (في النتيجة ) ننظر إلى واقعنا من خلال نص مكتوب وجاهز سلفا. وهنا إمكانية تدخل العقل محدودة مع تزايد مساحة النقل ومن الخطأ أن يبقى الإنسان في حدود النقل من النصوص لواقعه المتغاير.هذا ليس رفضا للتراث وإنما محاولة لأن يوجد هذا الإنسان بنفسه أيضا وباستخدام عقله ومن جهة أخرى هل يمكن لهذا الفيض من النصوص التي يفرضها الغرب علينا أن نردها إلى حدودها الطبيعية ؟ وعندئذ نقضي على أسطورة الثقافة الغربية التي تدعي العالمية . فالثقافة الغربية وعي فردي اجتماعي تاريخي وهذا الوعي له مصادر وله بداية وله ذروة وله نهاية وبمعنى له تكوين وبنية ومصير.
لماذا أصبحت الثقافة الغربية هي الإطار المرجعي الذي على أساسه تصدر كل أحكامنا. فلا يصبح الإنسان مدافعا عن العدالة الاجتماعية إلا إذا كان ماركسيا ولا يستطيع أن يدافع عن العقلانية إلا إذا كان ديكارتيا ولا يستطيع أن يتكلم في تحليل الشعور إلا إذا كان هوسراليا ظاهراتيا.....و هذا هو الوقوع في قبضة الشك الغربي على حد قول عبد الرحمن عزي والفلاسفة من قبل.
إذن فإن محاولة تخليص "الوعي بالذات " من الأطر المرجعية الغربية ومن نقل النصوص التراثية التي لا تشكل مرجعية حقيقية هو أحد الأهداف الأساسية التي ترمي إليها نظرية عبد الرحمن عزي الإعلامية . وليس معنى هذا الهروب إلى الأمام والتخلي عن كل ماهو قديم (تراث) ومعاداة كل ماهو حديث . وكل ما في الأمر هو الدعوة إلى إبداع الأنا في مقابل تقليد الآخر ،وإمكانية تحويل الآخر (الغرب ) إلى موضوع للعلم بدلا من أن يكون دائما مصدر للعلم .
السؤال السادس:
إن من أهم الأفكار التي تعلمناها من أستاذنا الكريم الدكتور عزي هو أنه لا يمكن فهم أي نظرية بمعزل عن سياق النظريات الأخرى – أو ما يسمى بوضع النظرية في سياق النظريات الأخرى. فمن هذا المنطلق كيف يمكن لنا أن نفهم ونضع نظرية " الحتمية القيمية " في سياق النظريات الأخرى في مجال علم الاتصال والإعلام، مثل نظرية " الحتمية التقنية “.
الجواب السادس:
هذا السؤال له علاقة بالمجال المنهجي والأدوات التي يتحرك في إطارها أو يوظفها الأستاذ عبد الرحمن عزي في مقاربة الظاهرة الإعلامية. فهو ينطلق من البنيوية التي تستخدم أداة "التضاد الثنائي" في دراسة اللغة كمؤسسة مستقلة وترى أن اللفظ يفهم في مقابلته مع لفظ آخر يغايره في المعنى وليس في المبنى.و يستخدم عبد الرحمن عزي هذه الأداة في مقاربة النظريات الاتصالية والمقارنة بينها...... وبالفعل لا يمكن فهم أي نظرية بمعزل عن سياق النظريات الأخرى. فنظرية الحتمية القيمية الإعلامية تفهم بشكل جيد عند مقارنتها بالحتمية التقنية ،كما أنها (أي الحتمية القيمية الإعلامية) تدفع إلى دراسة وتبيان تجزؤ هذه النظرية وتوفر إطارا ينتقدها ، لكن هم الحتمية القيمية ليس البحث أو الانشغال بالعيوب في النظريات الأخرى وإنما التعبير عن الذات والتميز الثقافي والحضاري . وتتعايش الحتمية القيمية الإعلامية مع النظريات الإعلامية الأخرى على بعض المستويات الواقعية والمنطقية لكن تنفصل عنها على مستوى القيمة (من كلام عزي عبد الرحمان). وإذا كانت المرجعية الاجتماعية مصدر قوة نظريات الاتصال الغربية فإن المرجعية القيمية تشكل ثقل نظرية الحتمية القيمية الإعلامية .
السؤال السابع:
نود أن تفسر لنا مراحل تطور المسمى أو العنوان الرئيس للنظرية نفسها ، فقد أطلق عليها الدكتور عزي مسمى " الحتمية الإعلامية القيمية " وبعد ذلك أطلقت عليها أنت مسمى " الحتمية النظرية القيمية " وأيضاً مسمى " الحتمية القيمية " . إلى أي حد يتطابق أو يختلف المسمى الحالي للنظرية مع المسمى الأصلي ؟ كما إلى أي مدى يمكن أن نتفق الآن كمجتمع لعلماء وباحثي علم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية والإسلامية على مسمى واحد لهذه النظرية من الآن فصاعداً.
الجواب السابع:
إن الحديث عن تسمية النظرية، ففي الأصل الدكتور عبد الرحمن عزي هو الذي أطلق عليها هذه التسمية مجازيا "الحتمية النظرية القيمية " في كتابه دراسات في نظرية الاتصال نحو فكر إعلامي متميز ،و بعد ذلك أطلقت عليها أنا تسمية "الحتمية القيمية الإعلامية"لتسهيل الفكرة وربطها بالإعلام مباشرة وذكرت ذلك في مقدمة كتابي "الإعلام والقيم قراءة في نظرية المفكر الجزائري عبد الرحمن عزي". وأطلقت الباحثة "عزوز هند " من جامعة باتنة مسمى "الحتمية القيمية " على النظرية في دراستها الأخيرة عن أهمية النظرية ،مبرراتها ومقتضياتها والمسمى الحالي للنظرية "الحتمية القيمية الإعلامية" يتكامل مع المسمى الأصلي للدكتور عزي عبد الرحمن "الحتمية النظرية القيمية".فالمسمى الحالي "الحتمية القيمية الإعلامية " يعكس الواقع (المجسد) ،أما المسمى الأصلي "الحتمية النظرية القيمية" فهو يعكس ما ينبغي أن يكون عليه الواقع ،أي النظرية وهي على مستوى المخيال المجرد .
وتسمية الحتمية (déterminisme) ليست مشكلة أسيء طرحها كما قد يبدو للبعض فمسمى الحتمية أطلق منذ القرن التاسع عشر على كل النظريات التي تحولت إلى علوم مستقلة، وما الشعور بالحتمي إلا الشعور بالنسق أو النظام الأساسي كما يقال .
فثمة في الواقع حتمية رياضية وحتمية فيزيائية للكون ،ويتضح إذن أن الحتمية الرياضية المبنية على النتائج ،لا تنطبق على حتمية فيزيائية مبنية أساسا على الأسباب ،و كذلك يمكن الحديث عن حتمية علم الكيمياء التي تبرهن ذاتها في أجسام منتقاة ،إن نظرية نيوتن (newton) مبنية أساسا على متغير واحد هو الجاذبية الأرضية( attraction de la terre)كحتمية لتفسير الظواهر الفيزيائية ونظرية اينشتاين مبنية هي الأخرى على النسبية في كل شيء (Relativisme Absolu)كحتمية لتفسير الظواهر الجامدة (و هي في الأصل متحركة ). وحتى إذا عدنا إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية فنجد تفسير الظواهر كان مبنيا على الحتميات :العقل عند ديكارت (Descartes) والجماعة أو المجتمع عند دوركايم والسلوك الفردي عند واطسون (Watson) والمثالية عند هيجل والطوباوية عند سان سيموهن واللاشعور عند فرويد والمنفعة عند بانتام والحرية عند جون لوك وهكذا.
ولأن ميكانيكا نيوتن قد تعرضت لثورة من داخلها لأن النسبية تهاجمها في صميمها المتكون من مفهوم الكتلة (la Masse )،نفس الشيء تقريبا أن الحتمية التقنية لـ:ماك لوهان تتعرض لثورة من داخلها لأن الحتمية القيمية تهاجمها الآن، يمكن إعطاء تسميات عدة لنظرية عبد الرحمن عزي ولكن حسب عدة مستويات:
ا/ نظريات الإعلام على مستوى النظم:
و هنا يمكن إعطاء المسمى الآتي :الإعلام القيمي ،على غرار تسميات الإعلام السلطوي الإعلام الليبرالي ،الإعلام الشيوعي ,الإعلام الإسلامي,الإعلام التنموي الخ .
ب/ نظريات الإعلام على مستوى التأثير:
و هنا نبقي على التسمية الحالية "الحتمية القيمية الإعلامية " على غرار الحتمية التقنية الإعلامية والحتمية الاجتماعية لتفسير الظاهرة الإعلامية...
ج/نظريات الإعلام على مستوى النماذج:
و هنا يمكن الحديث عن نموذج عبد الرحمن عزي ،على غرار نموذج لاسويل ،نموذج شانون وويفر،نموذج شرام ، نموذج هايدر (Heider) ،نموذج التنافر المعرفي ل:ليون فستنجر (leon Festinger) . فنموذج عبد الرحمن عزي يتألف من سبعة عناصر مركبة ومتداخلة بنيويا وهي:المرسل، الرسالة،الوسيلة،المتلقي،الأثر،النظام الاجتماعي والبعد الحضاري القيمي ف:(المرسل،الرسالة،الجمهور والأثر) تنسب إلى لاسويل،(الوسيلة) وهي ذات نزعة ماكلوهانية .أما النظام الاجتماعي والبعد الحضاري القيمي فهي من إسهامات عبد الرحمن عزي.
واترك في الأخير د.عزي عبد الرحمن هو وحده الذي يستطيع أن يعطي تسمية لهذه النظرية تكون ملائمة أكثر لمستوى إسهاماته،و أهل مكة أدرى بشعبها.
السؤال الثامن:
يقال أنكم لعبتم دورا أساسيا في نشر نظرية الحتمية القيمية الإعلامية في أوساط الطلبة بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة قبل أن تصبح معروفة بجامعات أخرى، إلى أي مدي يصح هذا القول؟و كيف تقيمون تجاوب الطلبة والأساتذة الشباب مع هذه النظرية خاصة بجامعتكم؟
الجواب الثامن:
هذا القول صحيح إذ أني فعلا لعبت دورا أساسيا في نشر بعض ملامح نظرية الحتمية القيمية الإعلامية في أوساط الطلبة بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة ،ولكن الفضل الكبير يرجع بالدرجة الأولى إلى الأستاذ عبد الرحمن عزي الذي سبقني إلى التدريس (وحتى التأطير) بهذه الجامعة كأستاذ زائر أوائل التسعينيات من القرن الفارط، حيث لما انتقلت إلى الجامعة في أكتوبر سنة 1993 وجدت بصماته واضحة قي الرعيل الأول من طلبة الدعوة والإعلام (معظمهم أساتذة الآن) . وقد زاد اهتمام الطلبة أكثر فأكثر بإسهامات الأستاذ عزى عندما تبلورت نظريته بشكل واضح في منتصف التسعينيات. وبصفة عامة ،فإن الإعلام الذي أصبح يدرس بجامعة الأمير عبد القادر لا يخرج عن الفلك الفكري القيمي لعبد الرحمن عزي ،فالحتمية القيمية تعتبر من المتغيرات الرئيسية عند دراسة أية ظاهرة إعلامية في الماضي أو الحاضر في جامعة الأمير عبد القادر ،فعالم القيمة حتمية عند دراسة القائم بالاتصال وعالم القيمة حتمية عند دراسة الرسالة الإعلامية، وفي نظرنا فإن التنمية الحقيقية تستدعي دمج الوسيلة(التقنية) في المنظور الثقافي القيمي للمجتمع ،ومن الضروري في هذه الجامعة معرفة كيف تتجسد معالم القيمة في الجمهور المتلقي،و كيف تؤدي القيمة إلى نوع من التأثيرالايجابي في المجتمع عندما تقترن بمحتويات وسائل الإعلام ،و كيف يكون التأثير سلبيا عندما لا تتقيد هذه المحتويات بأية قيمة أو تتناقض مع القيمة.
هذه تقريبا هي المحاور الكبرى للبحث الإعلامي على مستوى جامعتنا وبالتالي (كما أشرت في كتابي ) تشكل إسهامات عبد الرحمن عزي ونظريته مصدرا رئيسيا لبحوث الطلبة بالجامعة .فالاهتمام لم يعد على مستوى التلقي فحسب بل دائرة الاهتمام تتسع الآن للبحث في أطر النظرية ومن خلالها كمرجعية. بحوث معتبرة على مستوى البكالوريوس والماجستير تصب في النظرية وأخرى تعتمد عليها كمرجعية . خذ مثلا هذه المواضيع :مدخل إلى نظرية الحتمية القيمية الإعلامية ،القيمة كمدخل نظري ومنهجي لدراسة وتأطير الظاهرة الإعلامية، القيمة والسياق الحضاري الإسلامي،الحتمية القيمية الإعلامية:الأهمية، المبررات والمقتضيات مقاربة نقدية ابستيمية لمنظومة عزي المفاهيمية الخ.
كل هذه من أطروحات الطلبة التي تصب في صميم النظرية . أما التي تعتمد عليها كمرجعية وكمركز ومركز رؤية نذكر الأمثلة الآتية: الانترنت وخسوف القيمة ،القيمة في الرسوم المتحركة ،القيم في الدراما التلفزيونية ،الصورة التلفزيونية وعالم القيمة ،الإشهار في صحيفة الخبر – دراسة قيمية الخ. وهذه المواضيع اعتمد فيها أصحابها على النظرية كمرجعية بالإضافة إلى مرجعيات أخرى منها بالأخص الإعلام الإسلامي. ويجاور الطلبة والأساتذة الآن بشكل متفاعل بين الحتمية القيمية الإعلامية والإعلام الإسلامي في بحوثهم على مستوى التدرج وما بعد التدرج كما لقيت نظرية عزي بعض الصدى في بعض الأوساط الإعلامية الدارسة باللغة الانجليزية خصوصا بعد نشر كتابه "الكفاءة القيمية في عصر المعلومات " باللغة الانجليزية أواخر التسعينيات ،وهناك من يشتغل على النظرية –حسب الأصداء التي تصلني في الإمارات والعربية السعودية واليمن وفي ليبيا.وهنا اختم الإجابة عن سؤالكم بقول الأستاذ عزي في حوار أجري معه"حسبي فإن الفرد لا يحظى عادة بالتقدير الكافي ممن حوله وإنما في كثير من الأحيان ممن هم أبعد.و من طلبته ربما أكثر من قرنائه من الأساتذة فرغم أن معظم تدريسي كان في جامعة الجزائر إلا أن معظم الكتابات عن إسهاماتي أتت من جامعتي الأمير عبد القادر بقسنطينة وجامعة باتنة....."و نعتز نحن بدورنا في جامعة الأمير عبد القادر بهذه الشهادة وبطلبتنا الذين يحبون العلم والمعرفة إلى النخاع رغم الظروف والمرحلة التي يمرون بها والتي هي في غير صالحهم.
السؤال التاسع:
يقال أن كتابات د. عبد الرحمن عزي تشكو من الصعوبات كما أشار إلى ذلك د. السعيد بومعيزة ، فكيف تنظرون إلى هذا الموضوع؟
الجواب التاسع:
نعم أشار د.السعيد بومعيزة في الحوار الأول الذي أجراه مع أ.د.عبد الرحمن عزي والذي نشرته البوابة العربية لعلوم الإعلام والاتصال بأن كتابات عبد الرحمن عزي تشكو من الصعوبات ،و هنا ينبغي أن نضع السؤال في سياقه الصحيح ، فالقارئ الجديد أو الذي لا ينتمي إلى دائرة الاهتمام بالنظرية أو ليست له صلة بكتابات عزي سيجد صعوبة في الفهم على مستوى المفاهيم والمصطلحات دون الحديث عن الغايات والمقاصد ، فهذه أيضا ليست في متناول الجميع، حتى الذين ألفوا قراءة ما يكتبه عبد الرحمن عزي يدركون الفكرة أو الخلاصة إلا بعد القراءة المتمعنة عدة مرات . فالجملة الواحدة في كتابات عزي تحمل تراكما معرفيا وتوحي بدلالات كثيرة، كما يتسم أسلوبه بالسياقية وعمق الفكرة. فلابد من الدعوة إلى القراءة الواعية والرشيدة والمستمرة لنصوص عبد الرحمن عزي وهذه القراءة لا تتم إلا عن طريق المعرفة باللغة (الأسلوب) التي يكتب بها عزي، ثم محاولة معرفة المقاصد أو الأهداف. ونسميه نحن "روح النص" . وسبق أن اشرنا في دراسة سابقة أن ما يكتبه عبد الرحمن عزي هو "الإنسان" بدمه ولحمه وشحمه، هو الإنسان غير المشوه حضاريا....
و في اعتقادي هذا هو الغاية والمقصد السامي في كل كتابات عزي.لا يدرك هذه الغاية إلا ذو حظ عظيم .
السؤال العاشر:
في دراسته عن الكفاءة القيمية في عصر المعلومات باللغة الإنجليزية استخدم د. عبد الرحمن عزي العديد من أدوات مالك بن نبي في الرد على افتراضات "لرنر" وكتابه "زوال المجتمع التقليدي." فهل يعتبر مالك بن نبي المؤثر الأساس على الطريقة التي يعالج بها د. عبد الرحمن عزي الظاهرة الإعلامية في المنطقة العربية الإسلامية.
الجواب العاشر:
أولا لم اطلع على هذه الدراسة عن الكفاءة القيمية في عصر المعلومات المنشورة باللغة الانجليزية ،وقد حصلت على ملخص عنها باللغة العربية لا يتجاوز صفحة واحدة ،ليس فيه إشارة إلى "لرنر" وكتابه "زوال المجتمع التقليدي". ويدعو عبد الرحمن عزي في هذا الملخص إلى تغيير نظرتنا نحو التكنولوجيا وتكنولوجيا المعلومات خاصة, ويستدعي الأمر دمج التكنولوجيا في المنظور الثقافي القيمي للمجتمع، وذلك كما يقول يتطلب إدخال الثقافة في التقنية وليس تحويل الثقافة إلى تقنيات. فهذه العملية تعطي الأولوية للتحول الثقافي وتضمن الإشراف أو التوجيه الثقافي القيمي للتقنية والتكنولوجيا..... وهذه النظرة تقترب من بعض الوجوه من مفهوم العين السحرية أو "النظارة الحضارية "عند المفكر مالك بن نبي يرحمه الله ،فأزمتنا الحضارية هي على مستوى الفكر كما يقول مالك بن نبي ، وبالتالي النظر إلى الأشياء ينبغي أن يلبس لباس الوعي بالأشياء وليس الوعي في الأشياء .أي توجيه الأشياء بالمرجعيات المناسبة . هذه من مشكلات الحضارة التي تحدث عنها مالك بن نبي ،وأزمتنا الإعلامية في العالم العربي والإسلامي هي في غياب المرجعية الحقيقية المناسبة ،رغم بعض المبادرات التي تظهر هنا وهناك في بعض وسائل الإعلام في عملية استعادة القيمة وهو أمر ايجابي يتطلب الدعم والتشجيع فقط ينبغي الانتقال من "ماذا نقدم؟"إلى "كيف نقدم ؟" . أما الشق الثاني من السؤال هل يعتبر مالك بن نبي المؤثر الأساس على الطريقة التي يعالج بها د.عبد الرحمن عزي الظاهرة الإعلامية في المنطقة العربية الإسلامية ؟ في اعتقادي الشخصي وحسب قراءاتي لكتاباته . فإن موارد التأسيس والتأصيل لإعلام الفكرة عند عبد الرحمن عزي تتعدد من مالك بن نبي (في الحضارة) إلى محمد عابد الجابري (في المخيال الاجتماعي) إلى ابن رشد (في المنطق الفلسفي) دون أن ننسى ابن طفيل وابن خلدون وغيرهم الذين تظهر بصماتهم في الطريقة التي يعالج بها د.عبد الرحمن عزي الظاهرة الإعلامية في المنطقة العربية الإسلامية.
و قد سألني أستاذ في علم الاجتماع قبل سنوات عن حضور منطلقات ابن خلدون وبشكل كبير في كتابات عزي، ولاحظت ذلك كثيرا في دراساته الآتية :الرأي العام والعصبية والشورى التكوين الإعلامي والتصورات المرجعية ،المدارس الاجتماعية وتأملات حول المنظار الخلدوني ...الخ.
السؤال الحادي عشر:
كتب د. عبد الرحمن عزي دراسة باللغة الإنجليزية بعنوان "تأملات في تأملات واغنر عن شوتز" وترجمت إلى العربية ، ويبدو أن د. عبد الرحمن يشير إلى أفكار أحد أساتذة الظاهرتية الذين درس عندهم بأمريكا. فهل يكون د. عبد الرحمن يفضل هذا المنهج في مقاربة الظاهرة الإعلامية خاصة وأنه يعتبر البحث العلمي ذو بعد شخصي.
الجواب الحادي عشر:
ليست لدي أي فكرة عن هذه الدراسة المنشورة باللغة الانجليزية " تأملات في تأملات هاملت واغنر عن شوتز" وأتمنى أن تصلني النسخة المترجمة عنها إلى اللغة العربية. والاختزال الظاهراتي كمنهج معروف في كتابات عبد الرحمن عزي في تعامله مع الظاهرة الإعلامية .فهو (أي عزي عبد الرحمن) يزاوج بشكل متفاعل بين التحليل البنيوي والاختزال الظاهراتي كأدوات في مقاربة الظاهرة الإعلامية في العالم العربي.
السؤال الثاني عشر:
نرغب بهذا السؤال أن نرجع بسياق النظرية إلى بعض التفاصيل، خصوصاً فيما يتعلق بمدخل النظرية إلى العلاقة بين المرئي والقيمة. وإليكم بمقدمة للنقاش قبل طرح السؤال في آخر هذا الطرح للمناقشة.
يبين لنا الدكتور عزي أن المعنى هو ظاهرة غير مباشرة – كيف يكون ذلك؟ - يكون ذلك من حيث ارتباط المعنى بالرمز الذي هو بنفسه يحمل معناً ثنائياً. ومن هنا (و في البنيوية) فإن المعاني كليانية ، إذ أن الدال ككلمة أو رمز يرتبط أساساً بالتعبير اللسانية الأخرى الكامنة في متن مؤسسة اللغة : فالدال هو كلمة أو رمز ، والمعنى هو معنى الكلمة أو معنى الرمز، ومعنى الكلمة يرتبط أساساً بالتعابير اللسانية الأخرى الكامنة في متن مؤسسة اللغة.
و يرتبط المعنى (أيضاً) بالسياق التاريخي الذي يجعل الكلمة تطفو على السطح (تبرز إلى السطح) وتختزن بعض الدلالات إلى حين ما (إلى حين أن تتغير الكلمة ويتغير المعنى أيضاً) بحكم المتغير بالسياق التاريخي. ومن هنا نفهم أن المعنى (معنى الكلمة) هو عبارة عن عملية تختزن فيها بعض الدلالات في متن تلك الكلمة إلى حين ما – على حسب السياق التاريخي– إلى أن تتغير الكلمة ويتغير المعنى بتغير الدلالات المختزنة.
أما معنى الرمز فيبرز في سياق التحاور أو الصراع الاجتماعي والسياسي الذي تمت أو لم تتم تسويته. وهنا يضيف الدكتور عزي قائلا:" ويتعلق الأمر في منظورنا - بالإضافة إلى العوامل السابقة (التي تم ذكرها) بوثاقة الصلة بين الرمز والقيمة، أي أن الأخير (الرمز) يتحرك في عالم من القيم." وهنا يقول الدكتور عزي: " فقيمة الرمز تكون بمقدار ما لدلالاتها من ارتباط بالخيال الذي يفسر الوضع الذي يسعى جاهداً إلى الارتقاء “. فالرمز معنى يدل على معقول أو متصور أو متخيل (من الخيال أو المخيال). وعليه، فإن الرمز هو حلول الكلمة محل ما تدل علية مادياً أو معنوياً .
إن قيمة الكلمة لا تهمنا كثيراً هنا لأنها مرتبطة بمؤسسة اللغة، ولكن ما يهمنا هو دلالة الرمز على الكلمة. أو أن ما يهمنا هو قيمة الرمز. فكلما ارتبطت دلالة الرمز بالخيال الذي يفسر الوضع أو بالوضع الذي يسعى جاهداً إلى الارتقاء، زادت قيمة الرمز.
و توجد في الرموز (والكلمات) عدة مستويات:
- ما يرتفع إلى عالم المجرد ويطول أجلة في اللغة المنظومة أو المعجمية.
- ما يحمل دلالة عينية أي أنها ترمز إلى أشياء مادية وهي بذلك تكون محكومة بمحدودية عالم المادة فتختفي من المنطوق باختفاء تلك الأشياء المادية.
فهناك الرمز كمعنى والرمز ككلمة . فالرمز كمعنى يدل على معقول أو متصور أو متخيل والرمز ككلمة (symbole) هو حلول الكلمة محل ما تدل علية مادياً أو معنوياً. وذلك يعنى قيام الكلمات (الأسماء والصفات) مقام مسمياتها وموصفاتها، أي أن تحمل الأسماء والصفات محل مسمياتها وموصفاتها، ومن هنا ندخل إلى اللغة كخطاب. فاللغة بوصفها خطاباً تستثير مسمياتها وموصفاتها، وأن اللغة كخطاب تكون فيها الرموز (أي الكلمات) على عدة مستويات:
- رموز ترتفع إلى عالم المجرد ويطول أجلها
- و رموز ترمز أو تحمل دلالة عينية وترمز إلى أشياء مادية وتختفي من اللغة باختفاء الأشياء.
و من هنا فاللغة كخطاب تحمل هذا التوازن الدقيق بين ما يؤسس اللغة ويضاف إليها بالفعل وما ينقرض منها بانقراض الأشياء. فالرمزي يحمل في الأصل بنية الارتقاء حتى على مستوى الأشياء. إن النظرية العلمية للرمز (في تحليل الدكتور عزي) ترقى (أو ترتقي) إلى مستوى تفسيري وهي تدرس الكيف وما وراء الكيف . إن المرئي على النحو السائد في الصورة المصورة – الإشهارية أو السياسية – من جانب آخر هو ظاهرة يغيب فيها السياق المولد للمعنى كما يغيب فيها مبدأ النمو بفعل ذلك ( لأنها لا تحمل سياق مولد للمعنى ) . ومن هنا يتساءل الدكتور عزي " ما هي مكانة المرئي بالمقارنة مع المعنى ؟ ".
فهذه المكانة – مكانة المرئي – تبدو غامضة نتيجة لعدة أسباب منها: غموض عائد في أساسة إلى بعض التصورات السائدة حول الصورة ذاتها، كالمثل المعروف ( أن الصورة الواحدة أفضل من ألف كلمة)، وأيضاً بسبب ميل الإنسان إلى الثقة في العين (الرؤية) أكثر من الأذن (الاستماع) مثلاً.
إن الثقة الزائدة للإنسان فيما تراه عيناه تجعله لا يتساءل كثيراً عن علاقة أو مكانة المرئي بالمعنى. ومن هنا يمكن أن نفهم أن معظم الناس يعتقدون (اعتقاد خاطئ) أن المعنى هو صوري (أي أن المعنى هو صوريا (من الصورة) ولكن المعنى ليس صورياً (أو مرئياً) ولكن رمزياً، وإذا كان المعنى رمزياً (ليس صورياً أو مرئياً) فإن الإنسان يقترب من المعنى بالاجتهاد والقياس وإدراك العلاقة العلية في تجربة الحياة التي تبدو حادة ة مبهمة أحياناً. إن المعنى ينبثق في فعل التأويل الذي يؤدي إلى فعل التصور (ليس صورياً أو مرئياً) ولكن تصورياً من فعل التصور المرتبط بالخيال . فالصوري مرتبط بالمرئي فقط والتصوري مرتبط بالخيال . ومن هنا فإن المرئي هو ظاهرة مباشرة لأنه مرتبط بالصورة والمعنى هو ظاهرة غير مباشرة لأنهمرتبط بالرمز (أي الكلمة) والرمز أيضاً يحمل معناً ثنائياً – فــالـرمـز بـذلك يـتـحـرك أيضاً في عــالــم مـن الـقــيـم.
في سياق هذا التقديم كيف ترى مدخل نظرية الحتمية القيمية للعلاقة بين المرئي والمعنى ، ومن ثم بين المعنى والقيمة (أو القيم) ؟
الجواب الثاني عشر:
إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي نوعا من التحليل البنيوي أولا: ينبغي أن نميز بين الصوري (من الصورة) والمرئي(من الرؤية إلى الصورة).
فبالنسبة "للصوري" وعلاقته بالقيمة ،وكمدخل لنظرية الحتمية القيمية الإعلامية يمكن التأسيس على النحو التالي:إن الصورة (أيا كانت ثابتة أو متحركة )كمحتوى إعلامي إذا ما اقترنت بالقيمة (مصدرها الدين) يكون تأثيرها ايجابيا في المجتمع لأنها –في هذه الحالة- ذات دلالة حضارية وبالمقابل يكون تأثير الصورة سلبيا إذا لم تتقيد بأية قيمة أو تتناقض معها .وكلما كان ابتعاد الصورة عن القيمة اكبر كان التأثير السلبي أكثر.في هذه الحالة ،الصورة ليست ذات دلالة حضارية فتصبح هاوية غرائزية إذا تناقضت مع القيمة خاصة ، ويمكن دراسة الصورة كمدخل نظري للنظرية من زاوية التضاد الثنائي .فدراسة الصورة من هذه الزاوية هو البحث عن العلاقة الترابطية بين القيمة (اقترابا أو ابتعادا) والصورة فتكون الصورة حينئذ دالة قيميا أو غير دالة قيميا
إن الصورة في هذه الحالة تتحول من كونها توليف جمعي (additive synthèse )للخطوط والألوان والأشكال حسب بيبرس(perce) وكريستيان ميتر (Christian Metz)، إلى أن تصبح علامة ذات دلالة مركبة. والصورة تتكون (سيميائيا) حسب سوسير (Saussure) من دال هو الشكل الظاهر والمدلول هو المعنى الذي نربطه مع ذلك الشكل.
إن المدلول في الصورة يؤول ايجابيا كما يفسر سلبيا حسب تقارب أو تباعد الصورة مع القيمة ومقاربتنا نحن للنظرية القيمية يكون على مستوى المعنى الذي تفرزه الصورة وليس الصورة في حد ذاتها والمعنى سياقي قد يخرج عن دلالة الصورة ليرتبط بالبعد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الحضاري القيمي .
أما بالنسبة "للمرئي" وعلاقته بالقيمة فيمكن التأسيس على النحو التالي: فالمرئي مرتبط بالمشاهدة إلى الصورة (أي فعل الرؤية إلى الصورة) في هذه الحالة ما ترمز إليه الصورة يوجد في حقيقة الأمر على مستوى ذهن المتلقي (المشاهد). فالصورة بمجرد أن يلتقطها الفرد تخضع عنده إلى حركة ذهنية ذكية تنحدر من مرجعية فكرية محددة ونرى أن علماء الآثار يتبينون الثقافات القديمة من خلال الرسوم وتقنياتها ويحددون عصورها انطلاقا من رموزها .فالصورة كشكل عندما تتحول إلى الذهن تصبح مادة ثقافية لا تخلو من التعبير عن حضارة مجتمع أو مجموعة ،أما الرموز الاجتماعية التي تتضمنها تبقى بمثابة الشواهد الدالة عن خصائص ذلك المجتمع والمكاسب التاريخية التي تميزه. والرموز هنا قد تكون أصيلة أو دخيلة حسب الشواهد في الصورة وحسب تأويل المشاهد. ومقاربتنا نحن إلى النظرية تكون على مستوى العلاقة الوثيقة بين الرموز الأصيلة والقيمة أو الرموز الدخيلة وتناقضها مع القيمة .وتحتاج هذه المسالة إلى شرح. فالرموز تحيل إلى القراءة (الإيديولوجية أو الإبستيمية) للصورة فنقول أن هذه الصورة التلفزيونية مثلا تحمل رموزا أصيلة حقيقية عندما تعبر بصدق عن ثقافة معينة ،أو تحمل رموزا دخيلة على ثقافة معينة . فالرمز أيضا يكون دالا دلالة أصيلة أو دال دلالة غير أصلية (أي دخيلة). وطرحت هذه المسألة في السينما في العشرينيات من القرن الفارط في الاتحاد السوفيتي عندما طرح دزيقا-فار طوف ( Dziga-vertov) قضية الحقيقية في السينما (Cinéma Pravda) ،وعلاقتها بالواقع ومتى كانت الحقيقة قريبة أو بعيدة من واقع الطبقة الشغيلة . فالصورة هنا هي ذات مرجعية مبنية على رموز أصيلة كلما اقتربت من واقع العمال أو الطبقة الشغيلة وتكون دخيلة (امبريالية الصورة) عندما تبتعد عن هذه الفلسفة، والله اعلم...
السؤال الثالث عشر:
يرى بعض المفكرين في المنطقة المغاربية، أن مفتاح التنمية هو الثقافة ولا يمكن أن توجد ثقافة بدون منظومة للقيم. ومن ذلك يعتقد البعض أنه يجب علينا تحويل العلم إلى ثقافة (مهدي المنجرة)، ولكن من ناحية أخرى يرى الأستاذ عزي أنه يمكن أن نتصور (أو نتخيل) أن يكون للاتصال ، بوصفه تفاعل اجتماعي ، دوراً في توظيف (أو تسيير) آلية القيم داخل الثقافة . ما هو تعليقكم على هذه الفكرة ؟
الجواب الثالث عشر:
لا أريد أن أدخل في تفاصيل هذه الفكرة ،أي توظيف آلية القيم داخل الثقافة ،كما لا أريد أن أعرف مفهوم الثقافة لأن تعريف الثقافة الذي ينتسب إلى نظرية الحتمية القيمية الإعلامية أصبح معروفا لدى الطلبة بالجامعة ،و هو تعريف الأستاذ عبد الرحمن عزي الذي يعتبر الثقافة سلم يمثل مستواه الأعلى القيم ويكون مصدر القيم في الأساس الدين ،أي الإيمان والتقوى والتسامح والحق وهي من القيم الدينية الأساسية فالثقافة من هذه الزاوية ،هي التعبير عن الواقع أو معايشة الواقع انطلاقا من القيم. وفي المجال الإعلامي فإن الثقافة تتخذ عدة أشكال :الأدب والسينما والمسرح والفنون الأخرى المختلفة كالأغنية والرسم التشكيلي ويمكن تسميتها بالنص الثقافي المكتوب في الصحافة أو المسموع والمرئي في الإذاعة والتلفزيون. وعادة ما تعبر هذه النصوص عن الواقع بشكل رمزي....
إن ما تتصف به الثقافة عبر وسائل الإعلام هو غياب القيمة أو تحييدها على الأقل بحجة التطور أو مسايرة العصر ونحن نعتقد بأن القيمة هي المصفاة التي ننتقي من خلالها المنتوج الثقافي الذي يساهم في التنمية. ولا يتعارض هذا مع الإبداع وليس معناه أيضا "الانغلاق" أو "التحوط على الذات "و إنما المقصود من هذه العملية (إدخال القيمة في الثقافة) هو التميز الثقافي والحضاري .
السؤال الرابع عشر:
لماذا اعتمدت رسالة نور الدين لبجيري عن نظرية الحتمية القيمية الإعلامية على دراسة واحدة فقط للدكتور عبد الرحمن عزي رغم أن عناصر النظرية موجودة في أكثر من دراسة للأستاذ المذكور.
الجواب الرابع عشر:
نشير في البداية إلى أن دراسة الطالب نور الدين لبجيري لم تعتمد على دراسة واحدة للأستاذ عزي عبد الرحمن، ويمكن تتبع عناصر الدراسة جيدا لإدراك ذلك أو الرجوع إلى مصادر الدراسة لإدراك ذلك أيضا. ومع ذلك فإن الدراسة فعلا لم تعتمد الإحاطة الكلية لكل أبحاث الأستاذ عزي ، ويطرح السؤال:كيف يمكن دراسة أسس النظرية من غير إحاطة كلية لجميع أبحاث صاحب النظرية ؟
وحسب تتبعي لجهد الطالب نور الدين لبجيري فإن هناك محورين كان الطالب يرغب في إبرازهما من خلال دراسته الموسومة ب: "مدخل إلى نظرية الحتمية القيمية الإعلامية "
1-المحور التبريري:إن الهدف من الدراسة لم يكن وصف وتحليل النظرية على إعتبارأن عناصرها تتضح عبر التفاعل المكثف للأبحاث المتقاربة ذات المصب الواحد.ولذلك كانت تهدف هذه الدراسة إلى توجيه الاهتمام إلى أبحاث الأستاذ عبد الرحمن عزي ودراساته وأفكاره وتقديم تصور أولي (مدخل) عن النظرية من خلال هذه الدراسة. دراسة نور الدين لبجيري كانت متحركة في إطار منضبط ،كما أن دراسة عزي عبد الرحمن التي اعتمدها الطالب "الواقع والخيال في الثنائية الإعلامية" كانت البداية الفعلية لتطوير أسس النظرية بعد أن كان الباحث عبد الرحمن عزي يتراوح بين الإسهام في البحث عن البديل ضمن أطر متعددة وبين اقتناعه بضرورة إيجاد هذا البديل ضمن أطر الموجهات الذاتية للقيم المنبثقة عن الدين .و قد أشار في كتابه دراسات في نظرية الاتصال نحو فكر إعلامي متميز إلى أن هذه الدراسة "الواقع والخيال في الثنائية الإعلامية " وضع فيها "الأسس التي تقوم عليها نظريتنا" ومع ذلك فهي لم تستوعب كل عناصر النظرية كما أنه لا يمكن فهمها ما لم نفهم الأبحاث الأخرى للأستاذ عبد الرحمن عزي.
إن كل دراسة تنظيرية لابد وأن تحمل الأبعاد المتشعبة والأفكار المندمجة والعناصر المتشابكة لآراء الباحث ، وتمكن بعض الآليات التحليلية من الولوج إلى فكرة ما (إلى المركب) عبر المفكك.
2-المحور المنهجي:ذلك أن الدراسات التنظيرية التجديدية تنطلق من الولادة إلى النمو، وإذا كانت الولادة تحمل "الضعف" فإن التفريعات المتراصة عبر الفعل المؤسس على عامل الزمن الحقيقي للنمو تدفع إلى تقوية الأصل واشتداده. وميلاد الأفكار مثل ميلاد البشر (ينشأ في ضعف ويتقوى عبر عامل الزمن الضروري لذلك، ومع ذلك فإن مرحلة الميلاد تحمل كل جينات الفرد)، ذلك أن لحظات ميلاد الأفكار تحمل الجينات الأولى (الأسس والمبادئ) للتفرعات اللاحقة ، وما التفرعات اللاحقة إلا محاولة شد تلك الأصول لتستوي على سوقها . ولا نعني بالضعف هنا الخطأ وإنما نقصد به احتواء مرحلة الميلاد على التساؤلات والإشكالات ذات البعد الاستفهامي والتشكيكي على حساب ما يحمل الفرد من قيم الاستفهامي للباحث الذي يسعى إلى التغيير عبر رفض الواقع والبحث عن البديل والتشكيكي للمؤمن بأفضلية الموجود.
وبالرجوع إلى دراسة عبد الرحمن عزي (الواقع والخيال في الثنائية الإعلامية...) وتتبع أبحاثه اللاحقة نجد أن الدراسات اللاحقة حاولت الإجابة عن الإشكالات التي يمكن أن يثيرها تبني تلك الأسس مع الواقع اعني مع ماهو متفق عليه بين منظري هذا الواقع بالولوج عبر الفجوات لرؤية الواقع كماهو لا كما غلف (بضم الغين ) وهو ما يجعل التفرعات تنمو وبالتالي يشتد الأصل. ولذلك فإن مرحلة الميلاد رغم ما قد يشوبها من ضعف فإن وجودها يدفع إلى وجود أسس وركائز وقواعد لهذا المولود مما يعني ضرورة ملاحظة هذه الأسس في مرحلة الميلاد. ولو حاولنا الرجوع إلى دراسة عزي "الواقع والخيال.." لوجدناها فعلا تقدم بوضوح تشخيصا دقيقا للواقع متبوعا بتقديم رؤية واضحة للمجال الصحيح الذي ينبغي أن ندرس من خلاله الظاهرة الإعلامية فإنني أجد أن الاختلالات المعرفية والعلمية التي تظهر في مستويات عدة من مثل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحضاري مردها إلى الفصل النظري ،أي الفكري ومن ثم فإن الصراع أو التدافع يكمن في ميدان الفكر قبل أن يبرز على مستوى المجسد كما يقول الإستاد عزي في الصفحة 16 من كتابه,ثم يطرح البديل المنسجم مع هذه الرؤية وهو محورية البعد القيمي في دراسة الظاهرة الإعلامية .
السؤال الخامس عشر:
هل ترون أنه حان الوقت لإدراج نظرية الحتمية القيمية في المساقات النظرية بالبرامج الإعلامية الجامعية عندنا؟
الجواب الخامس عشر:
أصبح يزيد الآن عمر نظرية الحتمية القيمية الإعلامية عن عشرين سنة وفعلا حان الوقت لإدراجها في المساقات النظرية بالبرامج الإعلامية الجامعية ،فعلى مستوى جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية،أدرجت أنا شخصيا محاور من هذه النظرية ضمن مادة الإعلام الإسلامي المقررة لطلبة السنة الرابعة وكان ذلك مند الموسم الجامعي 1996/1997 كما أدرجت بعض كتابات عبد الرحمن عزي كمفاتيح لفهم هذه النظرية في بحوث الطلبة التطبيقية، وأشرفت أيضا على مذكرات تخرج بعضها يصب في النظرية ذاتها وبعضها الآخر يعتمد على الحتمية القيمية الإعلامية كمرجعية.و بمشيئة الله سأنتهي من إعداد قاموس جديد لعلوم الإعلام والاتصال عن قريب يتضمن بالتفصيل كل مفاهيم هذه النظرية الإعلامية والاتصالية.وسمعت بأن كتابات عبد الرحمن عزي تدرس ضمن مساق نظري بجامعة الملك آل سعود بالرياض، و في ليبيا أيضا إشارات إلى هذه النظرية ولو بطريقة غير مباشرة وساهمت البوابة العربية لعلوم الإعلام والاتصال منذ سنة بالترويج لهذه النظرية (إعلاميا ) في صفوف الطلبة على مستوى أقسام الإعلام العربية.وحان الوقت أن تكون هذه النظرية البديل بالإضافة إلى نظريات أخرى قريبة منها وأن تدرج في المساقات النظرية بالبرامج الإعلامية في جامعات العالم الإسلامي.
السؤال السادس عشر:
حاولتم في بحثكم عن تاريخ الصحافة ذات الطابع الإسلامي، فما هي بعض الدلالات التاريخية والمعرفية التي توصلتم إليها؟
الجواب السادس عشر:
إن الدراسة التاريخية المتواضعة التي أعددتها تحت عنوان "تجربة الصحافة الإصلاحية –الإسلامية في العالم العربي:بعض الملاحظات الأولية "عبارة عن جملة من الافتراضات القابلة للبحث والدراسة عن طبيعة هذه الصحافة، محتواها، شكلها وجمهورها الخ...وردت هذه الدراسة بشكل استعراض تاريخي عاجل من خلال بعض المراجع المشرقية التي لم تحتك في اعتقادي بشكل جيد بهذا النوع من الصحافة عبر التاريخ. وعلى العموم تبقى هذه الصحافة ذات الطابع الإصلاحي –الإسلامي تبحث لنفسها عن مكانة مرموقة لها في الساحة الإعلامية وربما من بين الدلالات التاريخية التي توصلت إليها والتي تميز تجربة هذه الصحافة هي أنها كانت كثيرة ومتنوعة وولدت في بيئة استعمارية ، وكان يديرها رجال إصلاح وعلماء ورجال دين وكانت قصيرة العمر وتصدر بشكل غير منتظم ومعظمها صحفا سرية ومحاصرة الخ .وإذا كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين يسمى عالميا بعصر الصحافة المكتوبة، فإننا يمكن تسميته بعصر الصحافة الإصلاحية في العالم العربي .إن هده الصحافة (القيمية ) التي نشأت وترعرعت إبان الاحتلال الأجنبي أدت دورها على أكمل وجه وهو الدفاع المستميت عن الأمة ومقوماتها رغم الصعوبات والمضايقات والحصار الذي كان مضروبا عليها... ومن بين الدلالات المعرفية التي يمكن استنتاجها من هذه الصحافة، هي أنها كانت تقدم محتوىمعرفيا يبرز معالم الثقافة العربية –الإسلامية ومضمونا إيديولوجيا مناهضا للمحتل الأجنبي وثقافته.فقط كان ينقص تجربة هذه الصحافة بعض مقومات الإعلام المعاصر (أي غياب الاحترافية والانتشار والسرعة ) .
السؤال السابع عشر:
ما هي الفكرة الأساسية التي أردتم طرحها في مؤلفكم الأخير "الإعلام والبعد الحضاري." ؟ كما تعملون حاليا على إنجاز مؤلف بعنوان "قراءات في نظرية الحتمية القيمية الإعلامية" بمشاركة عدد من الأساتذة، هل يمكن أن تحدثوننا عن هذا المشروع؟
الجواب السابع عشر:
إن الفكرة الأساسية التي أردت طرحها في مؤلفي الأخير "الإعلام والبعد الحضاري..." هو تناول العلاقة الموجودة حاليا بين الإعلام وعدد من قضايا الواقع العربي الإسلامي.ولذلك فالكتاب –كما علق عليه الدكتور عبد الرحمن عزي في التقديم –ينتمي إلى نظرية الحتمية القيمية في الإعلام التي تربط بين الواقع المجسد وما ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع الآن مستقبلا، فالمرجع يختلف نسبيا عن تلك التقاليد المعروفة في المحيط الأكاديمي بالإعلام الإسلامي والتي كانت نقليه ونصية في معظمها تغيب فيها تجربة الواقع والتعامل مع الأخر إلى حد كبير. كما يعتمد المؤلف على الربط بين معالم التراث القيمية وأدوات العصر في التعامل مع الظاهرة الإعلامية. وعموما فالأسمى في الفكرة الأساسية هو معرفة الواقع الإعلامي القريب من النظرية أو مدرسة القيمة ومعالجته بالحتمية القيمية...
أما عن مشروع الكتاب الجماعي الذي نعمل على انجازه حاليا فهو تحت عنوان "قراءات في نظرية الحتمية القيمية الإعلامية " بمشاركة عدد من الأساتدة والطلبة وهم:د محمود قالندر من جامعة صنعاء باليمن، د.السعيد بومعيزة من جامعة الجزائر ،د.نصير بوعلي ،الأستاذ أحمد عبدلي،الأستاذة رقية بوسنان (من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة،الجزائر) أ.عزوز هند من جامعة باتنة،الجزائر، أ.خالد القحطاني من العربية السعودية،الطالب هاشم الكريم من جامعة الشارقة بالإمارات العربية المتحدة،الطالب لبجيري نور الدين (دراسات عليا )جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة ، الجزائر،الطالب جمال بوعكاز (بكالريوس ) جامعة الأمير عبد القادر والقائمة مفتوحة لكنها ستطوي نهاية شهر ديسمبر 2008 ويتضمن المشروع المحاور الآتية:
ا/في باب التعريف بالنظرية:
-الإعلام والقطيعة الابستيمولوجية الجديدة.
-تأصيل علم الإعلام.
-الحتمية القيمية الإعلامية:الأهمية،المبررات والمقتضيات.
-مدخل إلى الحتمية القيمية الإعلامية:القيمة كمنهج لدراسة وتأطير الظاهرة الإعلامية.
-من حتمية الحداثة إلى الحتمية القيمية قراءة في فكر عبد الرحمن عزي.
ب/في باب المفاهيم:
-المفاهيم في المنظومة الإعلامية لـ:عبد الرحمن عزي.
-مقاربة ابستيمية لمنظومة مفاهيمية جديدة.
ج/في باب الحوارات:مع د.عزي عبد الرحمن:
-عودة إلى نظرية الحتمية القيمية الإعلامية واستنطاق الصامت
-حوار في الفكر والحضارة والإعلام.
د/في باب المقارنة بين الحتميتين:
و هما دراستان واحدة باللغة الفرنسية والثانية باللغة الانجليزية بين الحتمية القيمية المنتسبة إلى عزي عبد الرحمن والحتمية التقنية المنتسبة إلى مارشال ماك لوهان. ستضاف بعض الأشياء لهذا الكتاب .
هذا الكتاب الجماعي –من دون شك –سيقدم الكثير من السياق والإضافات عن نظرية الحتمية القيمية الإعلامية.
السؤال الثامن عشر:
هل لديكم أي انتقادات أو تعليقات على النظرية القيمية الإعلامية أو كتابات د. عبد الرحمن عز ي عامة ؟
الجواب الثامن عشر:
إن النقد مسألة سهلة وصعبة في نفس الوقت. فإذا كان القصد من النقد الانشغال بالعيوب والنقائص والاختلالات وإثباتها لغرض في نفس يعقوب حتى وإن لم توجد هذه النقائص ،فأنا لست من هواة هذا النقد ولا أمارسه في كتاباتي على الإطلاق ،لأن هذا النوع من النقد وهو موجود وبكثرة في كل المجالات لا يساهم في التقدم وإحداث التراكم العلمي والمعرفي بقدر ماهو مثبط للعزائم والهمم. كما أن الانشغال بالنقد من اجل النقد لا يفيد كثيرا في الذات ، والأحسن أن ينتبه الإنسان إلى ذاته تاركا الغير والكل له شأن في هذه الحياة.ومن اجتهد وأصاب له أجران ومن اجتهد واخطأ له أجر واحد وأجر الجميع على الله.
أما إذا كان القصد من النقد هو عرض وتفسير وتحليل وتقييم المنتوج العلمي من اجل توعية القارئ بأهمية هذا المنتوج ومساعدته في اختيار ما يقرأ وما لا يقرأ فأنا مع هذا النقد "البناء" ومهمتي الآن هي التعريف بنظرية الحتمية القيمية الإعلامية والكشف عن أبعادها ودلالاتها المختلفة رفقة المهتمين من الأساتذة والطلبة. مهمة شاقة ولكنها ليست مستحيلة خاصة عند حضور الرغبة والهجس المعرفي والبعد الحضاري .وهي عوامل قد تساعد على توسيع دائرة الاهتمام بهذه النظرية. وكما يقال إن النقد يقتضي ذكر الايجابيات قبل السلبيات فنحن الآن في المرحلة الأولى مرحلة التعامل مع ايجابيات النظرية أما المرحلة الثانية فنحن لا نستبق الأحداث قد تأتي منا أو من غيرنا وبموضوعية وعن دراية .وشكرا جزيلا لأخي هاشم الكريم على أسئلتكم الهادفة والدالة.
هاشم الكريم:
طالب ماجستير في كلية الاتصال بجامعة الشارقة.
أتقدم بالشكر والتقدير إلى الدكتور بوعلي نصير والدكتور عبد الرحمان عزي جل تقديري وشكري الجزيل.
إرسال تعليق