حين تضيق الساحة السياسية، ويتقلّص النشاط الحزبي، ولا تجد الشخصيات الوطنية منابر لها للتعبير عن آرائها ومواقفها، فماذا عساها تفعل؟
الشاهد في اغتيال عبان رمضان
وحين يرحل أحد رموز الثورة الجزائرية ويُضمّ جثمانه إلى مربع الشهداء بمقبرة العالية يكثير مشيّعوه، وتصبح ساحة التأبين ملتقى يجمع السياسيين وقادة الأحزاب والمجتمع الدني والمثقفين وحتى المتطفلين.
وتلتقي الوجوه ببعضها البعض، ويبدأ العناق أو المصافحة والكل يبحث عن حضور أمام الغير يلتقط الصحفيون الصور النادرة ل "النفاق السياسي" والكل يسعى لأن يكون ظهوره متميزا إعلاميا. تبدأ المواعيد مع المسؤولين ورجال السلطة، وتفتح ملفات الغائبين عن المشي خلف الجنازة. لا أحد يتذكر الراحل عبد الله بن طوبال فالحديث لا يتناوله لأن كل واحد من الحضور يفضل الحديث عن نفسه.
ولو كان المرحوم بن طوبال يدرك أنه إلى جانب رفيقيه عبد الحفيظ بوصوف وكريم بلقاسم لم يتركوا وراءهم إجابات صريحة حول قرار قتل عبان رمضان، لفضل أن يدفن خارج مربع الشهداء بالعالية، واقتدى بالمرحوم بن يوسف بن خدة وأوصى بأن يدفن في مقبرة أخرى لا تستطيع السيارات السوداء الوصول إليها.
قد لا يصدق القارىء حين أهمس في أذنيه أن من منعوا نشر مذكرات المرحوم عبد الله بن طوبال كانوا حاضرين في جنازته، ومن اتهموا رفقاءه باغتيال عميروش وسي الحواس كانوا حاضرين، وكأنهم يتشفون بموته عندما كان مريضا لم تره "اليتيمة" ولا من كتوبوا عنه أو صرحوا حوله، وإنما كان وحده يقاوم المرض مثلما قاومه من سبقوه أمثال الروائي الطاهر وطار.
أسماء كثيرة رحلت عنا وأخذت معها أسرار الثورة، ومن ينتظرون دورهم ما يزالون يمتنعون عن كشف المخفي من الثورة حتّى لا يتهموا باغتيالات لزملائهم الشهداء، لقد رحل الشاهد الذي يمتلك وثائق محاكمة عبان رمضان، ولا أحد يعرف لمن تركها؟
الغائب الحاضر في الجنازة
تحولت الجنائز في الجزائر إلى وسيلة للظهور الإعلامي للشخصيات الوطنية، وباتت المقابر منابر لتبادل الآراء والمعلومات وأرقام الهواتف.
بعض رؤساء الحكومات يفضلون اجتناب الحديث مع "العامة" والبعض الآخر يتجنبهم الحضور والكل يتظاهر بأن معارفه كثر، والحديث يدور حول الغائب في الجنازة وليس حول المرحوم، والمفارقة هي أن هناك فئة جديدة من "الرقاة" يحضرون الجنائز لاصطياد المسؤولين هل صارت الرقية علما يكشف مستقبل الموظف السامي في النظام القائم؟!
وهل جاء الأموات الحقيقيون إلى مقبرة العالية لتوديع الأحياء أم أن حضورهم الرمزي هو لتأكيد وجودهم حتى بين أروقة المقابر.
بعض الزملاء يعلّقون على ما يجري في الجنائز بأن من تلفظهم السلطة أو السياسة هم أكثر المستفيدين من "أعراس الأموات".
والبعض الآخر يعتقد أن المقابر في الجزائر والوطن العربي ساهمت في إثبات الوجود، فمن دبلوماسية الجنائز التي مارستها إسرائيل في تشييع جنازة الملك الحسن الثاني، إلى "دبلوماسية الأديان" التي مارستها حكومة "الفاتيكان" أثناء تشييع "الأب الروحي" للمسيحيين الكاثوليك، إلى المصالحة التي جاءت بها جنازة شقيق الرئيس بين النظام المصري والنظام الجزائري.
هل يدخل الإشهار مقبرة العالية؟
كان يفترض على وكالات الإشهار التفكير في الجنائز لتسويق منتوجها المادي والمعنوي، لأن المقابر صارت منابر للنخبة الجزائرية.
ومثلما تجد في الجنائز "النموذح المصغر" للمجتمع الجزائري، تجد في الإشهار ما لا تجده في الواقع المعيش، فحين تصير السيارة ب 40 مليون سنتيم على صفحات الجرائد بأسلوب "حكّ واربح"، فمن الطبيعي أن تغريك أنواع الأجبان وأنواع المشروبات، ولكنّك حين تتذوّقها تكتشف كيف يحتال المنتج على المنتج قبل احتياله على المستهلك.
ليست للإشهار لغة، فهو خليط من الفرنسية والعربية والدارجة على طريقة جازي "عيش la vie".
صحيح أن ساحات المقابر وأروقتها لا تختلف عن سوق عكاظ، ولكن "بازات" المستثمرين الأجانبوالجزائريين لا تختلف كثيرا عن الإشهار وما يجري في المقابر، فالعربية مغيبة في هذه الأسواق، وكأنها ملحقة "بحكومة ساركوزي"، والمفردة الوحيدة التي ما تزال متداولة في الأسواق الجديدة هي كلمة "دخول وخروج".
والحقائق المخيفة التي قد تخلص إليها إذا ما حضرت جنازة أو تسوّقت في "بازار جديد" أو استمعت أو شاهدت أو قرأت إعلانا تجاريا هي:
أنّ من يشارك في تهديم المساجد في الجزائر هو نفسه الذي يشارك في تهديم اللغة الوطنية سواء العربية أو الأمازيغية، وهم الذين دفعوا التيار الإسلامي إلى التطرف عندما علّقوا "رأس خنزير" على باب بيت أحد شيوخ الإنقاذ.
لقد أدرك الرئيس بوتفليقة أن القضاء على التطرف لا يكون إلا بتشجيع "الزوايا" فأقام لها "دولة" لتكون بديلا عن الأحزاب الإسلامية.
لقد جاءت "الأسواق الجديدة" لتفرض المنتوج الأجنبي ولغته، وتوفر "الحافز الاستهلاكي" لدى المواطن، وجاءت الإعلانات لتكشف حقيقة ما يحضر للجزائر مستقبلا، وإذا لم تبادر إلى إنشاء قانون للإشهار فإن ثقافتنا ولغتنا ستكون نهايتها على "لوحات المعلنين" مثلما هي نهاية الأحزاب في منابر العالية.
وللحديث بقية...
إرسال تعليق