بيئة الإنسان من منظور الثقافة والمجتمع
انتهى الجدل المعرفي في العلوم الإنسانية حول قدرة العلم على بلوغ الحقيقة، إلى أن الواقع لا يمكن النظر إليه بعِّده مجموعة أنساق منفصلة كما تفعل العلم التجريبية، بل هو كل مترابط كما تبدو لنـا الأشياء في واقعنا المباشر.من هذه الفكرة تنطلق معالجة الدكتور قيس النوري (أستاذ الأنثروبولوجيـا في جامعة بغداد) لمفهوم التبيّوء في كتابه (بيئة الإنسان من منظور الثقافة والمجتمع) المكون من 344 صفحة والذي صدر عن جامعة اليرموك.
والكتاب هو دراسة علمية لبيئة الإنسان من منظور تتداخل فيه معطيات علم الاجتماع والثقافة والإيكولوجيا في وحدة منهجية تتدرج في عرضها للموضوعة ابتداءً من شكلها المحسوس حيث تتشكل القاعدة الفيزيقية وصولاً إلى الموضوعات الأقل ظهوراً والأكثر تجريداً.
وعلى الرغم من أن المؤلف يذكر في مقدمة كتابه أنه يتصدى لموضوع الإيكولوجيا مستفيداً من كل الخلفيات النظرية والواقعية، إلا أن الحس البنائي الوظيفي كان طاغياً في معالجة الموضوع لما عُرِفَ به المؤلف من عنايته بالعلاقة الوظيفية التي تربط بين الثقافة والإنسان. ويبدأ المؤلف فصله الأول بتحديد مفهوم البيئة الذي بدا مرتبطاً بالعوامل الطوبوغرافية والظروف المناخية بقوة، إلا أنه مرتبط في الوقت نفسه بالموارد الحيوانية والنباتية على حدٍّ سواء، وكذلك بالكوارث الطبيعية. كما يعرض لموضوعة التوازن البيئي، مبيناً أن من الحقائق المخيفة على هذا المستوى أن أغلب سكان الكرة الأرضية من الفقراء، وأن القليلين منهم أغنياء، وأن الفجوة تتسع ليزيد عدد الفقراء الذين يكونون أكثر خصوبة وأعظم في زياداتهم السكانية، على الرغم من قلة مواردهم. لذلك يطالب الخبراء في هذا الشأن أن يكرسوا اهتمامهم لإعادة تنظيم وتركيب الرؤية الشمولية لمشكلات البيئة من الناحيتين العلمية النظرية والتطبيقية في مختلف مجالات التخطيط، مؤكداً أن هناك ركيزتين تصلحان أساساً لهذه الرؤية الجديدة هما: الاستبصار أو التنبؤ العقلاني Foreseeing الذي يمكن من خلاله استباق الأحداث والتهيّوء لها، ثم التغيير الموجه Guided Change الذي يرشد الحكومات والهيئات الأخرى إلى ما فيه مصلحة المجتمعات.
ويؤكد المؤلف أن أهمية المنافسة التي تعد فكرة جوهرية في مجمل الإيكولوجيا الحيوية. فجميع النظريات التطورية حول ارتقاء ونمو الكائنات الحية قد ركزت على الصراع من أجل البقاء، وأظهرت أن العمليات الطويلة للتغير في الكائنات الحية تنطوي على زيادة تخصصها لبعض المهارات والاستعدادات الفيزيقية التي تضاعف من قدراتها على التكيف لبيئاتها. ولا شك أن هذه العملية ما تزال مستمرة ويحتمل استمرارها مع استمرار تبدل الظروف خصوصاً في زيادة سيطرة الإنسان على البيئة. لكن النوع البشري مع سيطرته على البيئة يظهر تنوعاً هائلاً في نماذج حياته وأساليبه الإيكولوجية. ويضيف المؤلف أن من المؤمل أن يخف التشتت وتتسق خطط البشر البيئية لتؤدي إلى نسق إيكولوجي عالمي متوازن.
أما في الفصل الثاني، فيناقش الكتاب العلاقة الوثيقة بين التكيف (بأنواعه المختلفة) والبيئة، مؤكداً أن البنى الفيزيقية للكائنات الحية وأساليبها في الحياة تتحول مع مرور الزمن على وفق طبيعة العوامل السائدة في البيئة. وهو يشدد على أن الإنسان ينفرد بكونه يتكيف في بيئته (تكيفاً مركباً) بعكس الفصائل الحية الأخرى التي لا يتعدى تكيفها النمط الفيزيقي. فالتكيف الإيكولوجي البشري يكون في بعض درجاته طبيعياً، ذلك أن الإنسان يرتبط فسلجياً ببقية الفصائل الحية ويخضع لقوانين التكيف الطبيعي التي تخضع لها. فقد لوحظ في عالم بعض الفصائل الأخرى، أن أفراد الفصيلة الواحدة يختلفون في بعض سماتهم الفسلجية في الأقاليم الطبيعية المتباينة مناخياً، كما تلفت نظرنا في عالم التكيف الطبيعي البشري إلى بعض مؤشرات التي لا يخطئها البصر، ومنها أن شعوب المناطق الباردة تكون بيضاء البشرة، طويلة الأجسام وذات شعر أشقر وعيون زرق على الأكثر، أما شعوب المناطق الحارة فتكون قصيرة نسبياً، وذات شعر أسود وعيون سود وبشرةٍ داكنة، وهنـا تكمن نقاط الالتقاء بين التكيف الطبيعي الإنساني والتكيف الطبيعي الحيواني. على أن التكيف الطبيعي البشري لا يعتمد على عامل جغرافي واحد، بل يتأثر بعدة عوامل. فقد تتشابه الجماعات المتباعدة في لون بشرتها بسبب تشابه مناخ أقاليمها، ولكنها تختلف في بعض سماتها الفيزيقية الأخرى نتيجة لاختلاف العوامل الطوبوغرافية والغذائية.
أما ما يخص العوامل الجغرافية للتكيف فإن بعض المفسرين يرى في العامل المناخي، أثراً لـه أهمية، وتعزى هذه الأهمية إلى عوامل عدة منها أن المناخ يتقدم العوامل الفيزيقية من حيث كونه يحدد العادات الاجتماعية وطرق الحياة في مختلف أنحاء العالم، وهو أكثر جوانب البيئة الطبيعية اختلافاً في العالم. كما أن المناخ يشكل باعتقاد هؤلاء المفسرين البيئيين الأساس الذي يرتكز عليه النمط الرئيس الذي تتخذه حضارة المجتمع. والمؤلف بعد ذلك يماثل بين الباحثين المتعصبين لدور المناخ وأولئك المتعصبين للعوامل البايولوجية الرسيّة والوراثية، منتقداً تأكيدهم الاهتمام لصنفٍ واحد من العوامل دون الاعتراف بقيمة العوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية. بيد أن المؤلف يعود بعد ذلك ليعرض إدعاءاتهم فيتناول الآراء التي أكدت تأثيرات درجة الحرارة على النواحي البايولوجية والحالة الصحية للأفراد عموماً، ثم يعرض التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للمناخ، كذلك تأثيره في الاتجاهات الدينية المقترنة بطقوس العبادات و .. ما إلى ذلك عند الجماعات صاحبة الشأن، ((فمن المعروف أن الجماعات الدينية ذات الدين الواحد في العالم غالباً ما تتكيف روحياً وذهنياً بأشكال مختلفة عندما تختلف بيئاتها مناخياً وطبيعياً. فالبوذية مثلاً تصور جهنم بأنها نارٌ أزلية شديدة اللهب، وذلك لشدة الحرارة في الهند، وهي الموطن الأصلي لهذا الدين. غير أن سكان التبت الذين يؤمنون أيضاً بالبوذية يعتقدون أن العقاب في الدنيا والآخرة يكون عن طريق التجميد وليس الحرق، وواضح أن سبب الفارق في تفسير العقيدة الواحدة بين هاتين الفئتين يعود إلى برودة مناخ التبت وقسوة الحر في الهند)).
وفي الفصل الثالث الذي يتناول فيه العلاقة الوشيجة بين البيئة والتكنولوجيا، يؤكد المؤلف أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي أضاف بعداً جديداً لمحيطه الطبيعي وهو البعد التكنولوجي. فمن تكنولوجيا الإسكان إلى تكنولوجيا كسب المعيشة وتكنولوجيا المواصلات والنقل، مروراً بتكنولوجيا الدفاع والحماية البيئية. كما يتعرض المؤلف للعلاقة بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع، مشدداً على ((أن أهم أغراض النشاط العلمي هو معرفة الحقيقة بعكس التكنولوجيا التي تهدف إلى تحقيق الأغراض النفعية في عالمنا الحالي)).
أما صراع التكنولوجيا والنظم القيمية والأيديولوجية فيكون أقل منه بين هذه النظم والعلم. فالتكنولوجيا التي تبدو فوائدها ظاهرةً للعيان لمختلف شرائح الناس على العكس من منافع العلم وأهدافه التي يصعب إدراكها إلا من النخبة العلمية المثقفة في المجتمع، ولا يكتفي المؤلف بتصنيف الأنساق التكنولوجية وفقاً لعناصر محددة، بل إنه يتناول أيضاً العناصر الاجتماعية المعززة للتطور التكنولوجي تلك المعيقة لـه.
أما في الفصلين الرابع والخامس، فإن المؤلف يتناول البيئة الصحية والبيئة الاقتصادية، ففيما يخص البيئة الصحية يستخلص المؤلف من معظم الدراسات الإيكولوجية الحديثة أنها تشير إلى الوضع الصحي للجماعات والأفراد يتأثر كثيراً بالتركيب الطبيعي والثقافي للمحيط الذي يعيشون فيه، مثلما تتأثر الحياة الاقتصادية بهما كذلك. فعلى الرغم من ارتفاع الإنتاجية الحيوية (البايولوجية) في معظم بلدان العالم النامية في المناطق الإدارية، فإن ملايين البشر هناك يعيشون في مستوىً معيشي متدنٍ، كما نستطيع تلمس التنوع الإيكولوجي الإنساني في مجالات يصعب حصرها منها المجال الغذائي والسكني والأزياء.
وفي هذا الصدد يطرح الكتاب مفهوم العقلنة الاقتصادية الذي يوضحه الأستاذ النوري بالآتي: ((لا يقصد بالعقلنة التزام الشعوب والجماعات بالمباديء العلمية كما يفهمها ويمارسها المتخصصون، بل يراد بها حل المشكلات القائمة في إطار الممكن والمفيد عملياً)). فهي لا تنحصر فيما تفرضه البيئة الطبيعية، بل تتعداها إلى الأطر الثقافية وكذلك الأيديولوجية. وعليه يمكن القول أن العقلنة الاقتصادية في المجتمعات تهدف إلى خدمة احتياجات الفرد الرئيسة أولاً، وإدامة استمرارية البنية الاجتماعية لدعم وجود المجتمع ثانياً.
كما يشير المؤلف في الفصل الخامس إلى ضرورة حماية الأقاليم الطبيعية االحيوية باتخاذها إجراءً يهدف إلى الاستخدام الأمثل للأرض والمياه في تلك الأقاليم. وذلك يعني إدامة الإنسان للطبيعة وحفظها مع استثمارها المعتدل والنظامي المخطط لخدمة الرفاه الطويل المدى للجنس البشري.
وفي الفصل السادس يتناول المؤلف بالعرض والتحليل العلاقة بين السكان والبيئة مؤكداً أن مشكلة السكان تعد من أهم مشكلات عصرنا الحديث وأخطرها. فمن ((أهم الحقائق المرتبطة بالأزمة السكانية هي أن زيادة السكان استمرت بالتصاعد دون توقف يذكر عبر التاريخ البشري. وقد أدى ذلك إلى بلوغ سكان العالم الحالي نحو (4) أربعة مليارات إنسان، وهو عدد تضيق به الأرض وتنوء تحت أعباءه إمكاناتها الغذائية المحدودة)). والمؤلف يؤكد أهمية البحوث السكانية ذلك أنها تسلط الأضواء على العديد من المسائل المهمة، والتي يبدو من أهمها الكشف عن الضوابط الثقافية والاجتماعية التي توجه عملية التكاثر السكاني، وقد تقيدها في المجتمع، وكذلك العلاقة بين سلوك الجماعات وتحديد سكان كل منها في إطارها الإثني والثقافي. كذلك يتناول الباحث بعض مشكلات الكثافة السكانية العالية، ويعرض لنماذج من اتجاهات الخصوبة في أوربـا وأمريكا اللاتينية وجنوب آسيا والتجربة اليابانية الحديثة وكذلك تجربة الولايات المتحدة والتجربة الروسية، كما يعرض للتربية الدينية والأخلاقية وعلاقتها بالكثافة السكانية.
وفي الفصل السابع الذي يبدو أهم فصول الكتاب، يتناول المؤلف البيئة الحضرية، مؤكداً أنه حتى في البحوث السوسيولوجية لم يبذل سوى القليل من الجهد في تحليل البنية الاجتماعية الحضرية، ولعل هذا يرجع ـ كما يشير المؤلف ـ إلى الصعوبات التي تواجه مثل هذا النوع من الدراسات. وعليه فإن مشكلات التحضر، تحتاج تنظيراً دقيقاً يعتمد أطراً استقرائية نابعة من ملابسات واقعها، وليس من مجرد الفكر التأملي والفلسفي، فأول عقبة تواجهنا بهذا الخصوص هي أن المدينة ما هي إلا متغير Variable ، يصعب فصله عن غيره من المتغيرات، ولما كانت (الإيكولوجيا) هي الأساس الذي يعتمد عليه للتمييز بين ما هو حضري وما هو غير حضري، فزيادة سيطرة الإنسان على البيئة يبدو مرتبطاًًً أكثر بالنمط الحضري، وهذا يعني إن عملية التحضر ستظل في حالة من الانتشار المستقبلي والتغلغل إلى حياة الجماعات الريفية التي لم تتأثر بالتحضر، ولكنها تتحول تدريجياً نحو النمط الحضري. ولكن هذا لا يعني أن البشر سيتخلون عن الزراعة ويصبحون عمالاً صناعيين، فالمؤلف يشير إلى أن التحضر في معناه الأوسع يمكن أن يغير أسلوب تفكير سكان القرى دون منعهم من الاستمرار على ممارسة الزراعة وتربية الثروات الحيوانية.
وتأسيساً على ما سبق، يستنتج المؤلف أن البيئات الحضرية تخضع في مختلف جوانبها للمتغيرات الاجتماعية الثقافية، على الرغم من أن الكتاب الحضريين الشكليين المتأثرين بالحضارة الغربية الصناعية طرحوا آراءً أحادية تغفل كثيراً من التنوع والتشتت في مفهوم وأصناف التحضر.
وفي الفصل الثامن من الكتاب، تناول المؤلف العلاقة بين البيئة والاتصال الثقافي، مؤكداً أن الاتصال الثقافي أصلاً هو معادلة التفاعل الإنساني في حدود المكان والزمان. ولكنه يشير إلى تركيز بعض الباحثين في حركات الاتصال والانتشار على زاوية امتداد آثارها في الاتجاهات الإقليمية المختلفة، وتمخضت عن هذا التوجه العلمي فكرة الأقاليم الثقافية. ويقصد بالإقليم الثقافي Culture Area منطقة ثقافية تقطنها جماعات تشترك في سمات ثقافية محددة تميزها عن جماعات المناطق الأخرى.
ثم يعود الباحث في الفصل الأخير ليشير إلى مسألة التنوع الثقافي للبيئات التي يعيش فيها الفرد في الوقت نفسه، وهي البيئة الاجتماعية والبيئة الثقافية والبيئة الفيزيقية. وبعبارة أخرى فالتعريف الذي يخرج به المؤلف للبيئة يعدها سلسلة منظمة من الارتباطات بين العناصر والأفراد التي تتخذ صيغة النمط العام. فالبيئة هي بنية محددة لا تكون في حالة أشياء مبعثرة تخضع لعامل المصادفة أو الاعتباط وهي تعكس وتسهّل العلاقات والتبادلية بين الناس والعناصر الفيزيقية للمحيط.
بقي أن نشير إلى أهمية موضوع الكتاب الذي يبحث في حديث الساعة، والقضية التي تعقد من أجلها مؤتمرات دولية عديدة.
علي وتوت
إرسال تعليق